
التطبيع في ظل الإبادة الجماعية: هل يتحول حلم إسرائيل إلى واقع؟ بقلم : معروف الرفاعي
في وقت ترتكب فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث تُسفك الدماء وتُرتكب مجازر تلو الأخرى في مشهدٍ لا يترك مجالًا للشك في أن ما يجري هو إبادة جماعية موثقة بالأدلة والشهادات، يتواصل مشهد آخر موازٍ لا يقل خطورة: موجة تطبيع غير مسبوقة مع إسرائيل، تفتح أبوابها علنًا وسرًا في عواصم عربية وإسلامية، وتضع علامات استفهام كبرى حول أخلاقيات السياسة، ومصير القضية الفلسطينية، ومستقبل المنطقة.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأت إسرائيل حربًا شاملة على قطاع غزة، شملت قصفًا هستيريًا للأحياء السكنية، واستهدافًا مباشرًا للمستشفيات والمدارس ومخيمات النازحين، إذ أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية أكدت أن ما يحدث هو “إبادة جماعية محتملة”، بل إن محكمة العدل الدولية أقرّت وجود أدلة جدية على انتهاك إسرائيل لاتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948.
ورغم كل ذلك، لم توقف بعض الأنظمة الرسمية خطواتها نحو تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، بل شهدنا على العكس، لقاءات دبلوماسية، وصفقات أمنية، ومبادرات اقتصادية مشتركة، بعضها يتم بسرية وبعضها بات يُعرض على الشاشات ووسائل الإعلام دون خجل.
لم تكن اتفاقيات “أبراهام” عام 2020 التي وقّعتها الإمارات والبحرين والمغرب مع إسرائيل، مجرد خطوة عابرة، بل فتحت الباب أمام دول أخرى لتسلك المسار ذاته. وبعد مضي سنوات قليلة، أصبح مشهد رفع العلم الإسرائيلي في بعض العواصم العربية مألوفًا، بل ويقترن أحيانًا باحتفاء رسمي.
وفي خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، استمرت اللقاءات الأمنية والسياسية بين إسرائيل وبعض العواصم التي تُعد حتى الأمس القريب مناصرة للحقوق الفلسطينية، فالتبادل التجاري، والتطبيع الرياضي، والتعاون التكنولوجي – كلها تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ واقع جديد تصبو إليه إسرائيل منذ عقود، وهو الاندماج الكامل في المنطقة مع تجاهل تام للحقوق الفلسطينية.
منذ تأسيسها عام 1948، سعت إسرائيل إلى هدفين استراتيجيين: ضمان تفوقها العسكري، وتطبيع وجودها السياسي في محيطها العربي، التفوق العسكري تحقق منذ عقود بدعم أمريكي وغربي غير مشروط، أما التطبيع السياسي، فقد بقي حلمًا مؤجلًا إلى أن بدأ يتحقق شيئًا فشيئًا منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثم وادي عربة، وأخيرًا اتفاقيات أبراهام.
لكن الفارق هذه المرة أن التطبيع يجري في ظل جرائم حرب بشعة، وفي وقت يعاني فيه الفلسطينيون من واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخهم المعاصر، وهو ما يكشف بوضوح أن الهدف ليس تحقيق السلام أو التعاون، بل تصفية القضية الفلسطينية وفرض واقع الاحتلال كأمر واقع لا نقاش فيه.
تكمن المأساة الحقيقية في هذا المشهد في غياب الأخلاق السياسية في: كيف يمكن تبرير علاقات رسمية مع دولة ترتكب الإبادة الجماعية أمام أعين العالم؟ ما هي الرسالة التي تصل إلى الشعب الفلسطيني وهو يرى بعض العرب يتصافحون مع من يدمّرون بيته ومستقبله ويقتلون أبناءه؟ بل ما الرسالة التي تصل إلى الاحتلال نفسه؟ أليس في ذلك ضوءٌ أخضر للاستمرار في عدوانه، ما دامت العواقب معدومة والتطبيع يتسارع؟
رغم هذا الانحدار الرسمي، لا تزال الشعوب العربية – إلى حد كبير – ترفض التطبيع وتعبّر عن غضبها عبر المظاهرات والمواقف الشعبية والنقابية، فقد شهدنا مواقف مشرّفة من مؤسسات رياضية وثقافية وأكاديمية في دول عربية وإسلامية تعلن مقاطعتها لإسرائيل، وتؤكد وقوفها مع فلسطين.
لكن المسافة تتسع بين إرادة الشعوب وخيارات الأنظمة، التي ترى في التطبيع وسيلة لضمان الاستقرار السياسي أو كسب الدعم الغربي، أو الخروج من أزماتها الداخلية عبر “التحالف مع القوي”.
على الصعيد الدولي، تواجه إسرائيل عزلة متزايدة، فحركات المقاطعة تنتشر، ودول في الجنوب العالمي تتخذ مواقف أكثر حدة، ومحاكم دولية تنظر في الجرائم المرتكبة، لكن هذا لم يمنع بعض الأنظمة من السير في ركب التطبيع، وكأنها لا ترى أو لا تريد أن ترى.
هل يتحقق حلم إسرائيل بتطبيع كامل في المنطقة؟ ربما على المستوى الرسمي تسير الأمور في هذا الاتجاه، لكن الواقع الشعبي والحقائق التاريخية والديمغرافية على الأرض تؤكد أن القضية الفلسطينية لا تموت، وأن التطبيع في ظل الإبادة هو خيانة مزدوجة: خيانة للأخلاق، وخيانة لمصالح الشعوب.
المطلوب اليوم ليس فقط رفض التطبيع، بل إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية حرية وعدالة وكرامة إنسانية.
فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى.
- – معروف الرفاعي – سياسي واعلامي مقدسي