10:43 مساءً / 16 يوليو، 2025
آخر الاخبار

حين يُصبح الجرح مسبحة ، قراءة فلسفية وجدانية في قصيدة يحيى السماوي (مازلت أضفر من جراحك مسبحتي)” بقلم: رانية مرجية

حين يُصبح الجرح مسبحة ، قراءة فلسفية وجدانية في قصيدة يحيى السماوي (مازلت أضفر من جراحك مسبحتي)" بقلم: رانية مرجية

حين يُصبح الجرح مسبحة ، قراءة فلسفية وجدانية في قصيدة يحيى السماوي (مازلت أضفر من جراحك مسبحتي)” بقلم: رانية مرجية

مازلت أضفر من جراحكِ مسبحتي
وأعدّها: نُدبًا.. ودمعًا.. سجدتي
أستغفرُ الدمعَ المُعلّقَ في المآقِ
إنْ نسيتُكِ، لا الصلاةُ صلاتي!
مازلتُ أبحثُ عنكِ في كلِّ الزوايا
في الحنينِ، وفي الصدى، في ذاكِراتي
يا وردةً نبتتْ على جرحِ الفؤادِ
وسَقتْ دمي.. فازدادَ عطركِ نكهتي
لولاكِ، ما كانتْ لغربتي قناديلٌ
ولا للوصلِ خيمةٌ في غربتي!

في هذه القصيدة المتوهّجة كجمرٍ مقدّس، لا يكتب الشاعر يحيى السماوي عن الحب فحسب، بل عن الوجود نفسه، عن ذلك الخيط الرفيع الذي يشدّنا إلى الحياة رغم الألم، عن العشق حين يتجاوز الجسد إلى ما يشبه المطلق… إلى ما يُشبه الله.

السماوي، الشاعر الذي يتكئ على اللغة كأنها عصاه في التيه، لا يكتفي بأن يُجيد الغناء، بل ينسج من اللغة عزاءً ومحرابًا، وفي هذه القصيدة يكتبنا قبل أن نقرأه، ويفضح فينا هشاشتنا المقنّعة.

الجرح كمصدر نور
في بيته الأول، يُجري السماوي انقلابًا شعريًا مدهشًا:

“مازلت أضفر من جراحك مسبحتي…”
إنه لا ينزف من الجرح، بل يضفر منه “مسبحة”؛ أداة للتسبيح، للتهجد، للرجاء. هكذا يُحيل الألم إلى فعل تطهير، إلى طقس يُطهّر الروح، إلى صوفية لا تُجيد إلا البكاء على عتبات الغياب. الجرح هنا ليس لعنة، بل صلاة خفية، هو شكل آخر من الحضور، أكثر فتكًا من الغياب العادي.

كل جرح في هذه القصيدة يتحول إلى لؤلؤة في مسبحة الذكرى، وكل دمعة تصبح ركعة في محراب الحنين. إنه يعبد من أحب، ليس بمعنى الوثنية، بل بمعنى التطابق الروحي مع المعشوقة التي تمثّل كل المعاني الوجودية.

“إن نسيتك، لا الصلاة صلاتي!”
بهذا البيت يبلغ السماوي ذروة الصدق الوجودي؛ فالنسيان هنا ليس مجرد خيانة، بل نفي للذات، انقطاع عن الله، انقطاع عن كل ما يعطي للصلاة معناها، وللوجود توازنه.
البُعد النفسي للحنين
القصيدة مشبعة ببعدٍ نفسي عميق.
الشاعر لا يبحث عن المعشوقة في مكان محدد، بل في “الزوايا”، في “الصدى”، في “الذكريات” — أي في ظلال الأشياء، في الأطياف، في اللاوعي واللازمن. إنها ليست امرأة محددة، بل تمثيل رمزي لكل ما كان جميلاً وفُقد.

“مازلتُ أبحثُ عنكِ في كلِّ الزوايا
في الحنينِ، وفي الصدى، في ذاكِراتي…”
الذكريات في هذه القصيدة ليست مجرد صور محفوظة في أرشيف العقل، بل كائنات حية تُطارد الشاعر وتنبض داخله. والحنين، هنا، ليس نزهة عابرة، بل سجنٌ شفاف من نور، لا يراه أحد سواه.

العطر الذي فاض من الدم
أجمل الاستعارات تظهر في البيت التالي:

“يا وردةً نبتتْ على جرحِ الفؤادِ
وسَقتْ دمي.. فازدادَ عطركِ نكهتي…”
كم هو مدهش أن تنبت وردة على جرح! والأجمل، أن تسقى من دمه لا من ماء. إنه استعارة وجودية فلسفية عن الحب الذي يخرج من عمق الألم، والذي رغم كل ما يستنزف يظل مصدر عطر وأمل.
العطر هنا ليس شيئًا يُشمّ، بل هو جوهر الشاعر نفسه، جزء من نكهته، من كينونته. لقد صهرته المعشوقة في بوتقة الغياب حتى صار عبيرًا.

فلسفة الغربة والضياء
“لولاكِ، ما كانتْ لغربتي قناديلٌ
ولا للوصلِ خيمةٌ في غربتي!”
الغربة هنا ليست جغرافية، بل غربة نفسية وجودية. إنها غربة النفس عن نفسها حين تفقد من تحب، غربة المعنى حين يُمحى أثر الحب من الروح.
لكن الحبيبة — رغم الغياب — تُشعل القناديل وتزرع الخيم، كأنها ما تزال تمنح الغريب أمل العودة، أمل المعنى.

ما وراء النص: الحضور الأنثوي كمطلق
المرأة في هذه القصيدة لا تُمثّل جسدًا، بل “كيانًا”، رمزًا أسمى للحضور.
هي الحب، هي الذكرى، هي الوطن، هي الله في صورة عطر.
إنها ليست مَن يسكن القصيدة فقط، بل هي القصيدة نفسها.
لذلك فإن البُعد النسوي في النص لا يُقارب الأنثى ككائن هش، بل كقوة حية، كجذر نبتت عليه هوية الشاعر وكينونته، فلا صلاة تُتمّ من دونها، ولا نجاة خارج حدود ظلها.

في الختام:
هذه القصيدة ليست ترفًا لغويًا، بل تجربة روحية شديدة الصدق والشفافية، تشبه بكاء نبيٍّ في الليل وهو يتلو مزاميره للنجوم.
إنها صلاة مكتوبة على جسد الجرح، واحتفال بالألم حين يصبح ضرورةً للمعنى، وتحوّلٌ للمحبوبة من كونها امرأة إلى أن تكون الوجود كله، أو الغياب كله.

في زمنٍ صار الحب فيه سلعة، يأتينا السماوي ليذكّرنا أن هناك من لا يكتب الشعر إلا ليصلي، ولا يصلّي إلا ليبكي، ولا يبكي إلا لأن الذكرى وطن لا منفى له.

رانية مرجية
شاعرة وكاتبة فلسطينية

شاهد أيضاً

السفيرة أمل جادو تلتقي رئيس حزب MR البلجيكي جورج لويس بوشي وتؤكد: الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة قانونية وأخلاقية لإنقاذ حل الدولتين

السفيرة أمل جادو تلتقي رئيس حزب MR البلجيكي جورج لويس بوشي وتؤكد: الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة قانونية وأخلاقية لإنقاذ حل الدولتين

شفا – التقت السفيرة أمل جادو برئيس حزب الحركة الإصلاحية MR البلجيكي، السيد جورج-لويس بوشيه، …