8:38 مساءً / 29 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

من الطين إلى الثرى : تأمل في فلسفة الإنسان والوجود في قصيدة الطين – إيليا أبو ماضي ، بقلم : بلقيس عثامنه

من الطين إلى الثرى : تأمل في فلسفة الإنسان والوجود في قصيدة الطين - إيليا أبو ماضي ، بقلم : بلقيس عثامنه

من الطين إلى الثرى : تأمل في فلسفة الإنسان والوجود في قصيدة الطين – إيليا أبو ماضي ، بقلم : بلقيس عثامنه


الطين الرمز الأول لخلق الإنسان، بداية رحلة وجوده، ولو تأملنا في الطين لوجدنا فلسفة خاصة، وحكمة فريدة فالخلق من طين، وينتهي المطاف في طين يحتضن الإنسان، من جديد، فتنتهي قصة حضوره الإنساني من حيث بدأت، من الطين.


يبدأ الإنسان من طين، ويتنقل بين موجودات الكون التي يجمعها هذا الطين، إذ يمثل أساسًا في نظامها، وإن لم ندرك، حتى تكون الرحلة ثرية وعميقة لننظر لطين على أنه أصل الوجود، يحتضن البذور لتصبح أشجارًا، ويضم الأموات مغلقًا ذراعيه بشدة محكمًا الاحتواء، فيكون رمز البداية والنهاية، ومصدر الغذاء وتنقية الأكسجين، فللطين سحره الخاص ورمزيته التي تتشعب وتتعدد، ولا يتسع المقام لحصرها.


بعد هذه المقدمة، ننتقل إلى صلب القصيدة، ومحور الفكرة التي تدور في فلكها:
نسي الطين ساعةً أنه طينُ حقيرٌ فصالَ تيهًا وعربدَ


تكمن الرسالة من القصيدة في هذا البيت الذي اختزل الفكرة الفلسفية الإنسانية، والذي يشير إلى تكبر الإنسان واستعلائه على أخيه الإنسان وعلى الطبيعة؛ لأنه نسي نفسه ونسي أنه من الطين وإليه، فاستخدام هذه الرمزية يحيل إلى النهاية كما إلى البداية، فالإنسان في رحلته بين طين وطين، لذا ما الداعي إلى التكبر؟


لم يخلق الإنسان من طين ليعلو، لو أُريد له أن يختال في الأرض لربما خلق من لؤلؤ مثلًا! لكنه من طين وهذا برهان على أن صفاته يجب أن تأخذ من صفاته من التواضع وتهذيب النفس والترفع عن هذه السفاسف والعطاء منقطع النظير، يقترن الكبر في المال، والمال في السلطة والقوة وهذه الحلقة ثقب يبتلع الإنسان وتزيد غروره واعتداده في نفسه، فيشعر بالتسلط والقوة ويشبع في داخلة لذة الانتصار والسيطرة فيكون حضوره سلبيًا؛ لنسيانه أصله!


تكشف القصيدة زيف هذه السيطرة، وأن نشوة العلو كذبة كبيرة، من خلال عقد مقارنة بين الغني والفقير، قطبي القصيدة وفلسفة الوجود الإنساني، تعقد المقارنة بين جوانب الإنسان واحتياجاته، فالغني والفقير يرتدي الثياب، وكلاهما يشعر بالجوع والظمأ، فضلًا عن الجوانب النفسية العميقة فكلاهما يحب ويكره ويتألم ويمرض، وبالتالي فأين سلطة المال من هذه الأمور؟


هل للقوة والمال سلطة على احتياجات الإنسان الجسدية أم سلطته على شعوره؟ تبطل القصيدة الفوارق وتكشف زيف مفهوم القوة! وتذهب للغوص بعيدًا في تساؤلاتها فهل لصاحب القوة والمال من قدرة على منع نور الصباح من دخول بيته؟ أم أن بإمكانه إيقاف الظلام في المساء عن مساس محيطه؟ لا إجابة، لأنها بديهية، لذا تنتقل القصيدة إلى مقارنة أخرى قائمة على علاقة قوة الإنسان بكل ما في الطبيعة من أمور ملموسة، فربما الظلام والنور ليسا في نطاق السلطة لبعد مصدرهما!


كل مكونات الطبيعة من نهر وشجر وفراشات، كلها جزء من هذا الكون، وتختضع لسلطته وإن كان الإنسان أذكى المخلوقات ومن سُخّر كل شيء له، هل سيتمكن من فرض قوانينه، وإعمال رغباته في جريان النهر؟ أو في أثمار الأشجار؟ إنه ضرب خيال!


المفارقة هنا، أن الإنسان يقوم بفرض سلطته على أخيه في الطين، ابن جلدته، إن صح التعبير، ونتيجة لذلك لماذا لا يسير الكون بناءً على رغبته؟ وابن الأرض يوقع الظلم على أخيه بلا حول منه ولا قوة خاضعًا ذليلًا أمام سلطة المال والكبر!


الطير الشادي لا فرق في عينيه بين استماع غني أو فقير إلى غنائه، هذا الطير الصغير الذي يعلو في السماء مبتعدًا مترفعًا عن الأرض، الطير الضعيف، لا فرق عنده بين غني وفقير! يعامل الإنسان على أنه إنسان لا على اعتبارات أخرى! في حين أن الإنسان يرفع من شأن المتكبر، ليس بالتذلل فحسب، ربما بالشعور بالنقص أمام كبره أو ماله.


وهذه فلسفة الشاعر في القصيدة، نسي المتكبر أنه طين، وأن الطين أصل ومآل كل الطبيعة والإنسان، فلا يأخذ الغادي شيئًا من حاجيات الأرض، يعود إلى الطين وحيدًا تمامًا كما فارقه، يعود مجردًا من كل أثقال الدنيا كما جاءها، لينام في مكانه الأول وموضع خلوده وفنائه، لذا لماذا الكبر؟ ولماذا ينتقص الإنسان من ذاته لأجل آخر؟ ودليل الشاعر الطائر الصغير الذي يحمل عقلًا صغيرة، مقارنة بابن الطين!


تقضي القصيدة في مقارنتها عددًا من الأبيات، في أبعاد مختلفة وبغايات متعددة، فالرمزية خير دليل على قدرة الشاعر إبداع المعاني وتحميلها ما لا يقال، فهذه السماء بأقمارها وأنجمها لا تختلف إذا نظر لها الغني أم الفقير، ولا تختلف إن كان الناظر في قصر أم في كوخ، تبقى السماءُ سماءً، والنجومُ نجومًا متلألئة، وهذا يقود لمفارقة، مهمة، فالإنسان مهما علا شأنه أو نقص يتأمل السماء بعين حالمة، ذات العين، لا فارق، في حين تذكر ولا تحصى الفروق إذا نظرت العين لابن جنسها! أيستحق الأمر؟


شغلت الأحلام والآلام جزءًا من رسالة القصيدة، فالنص يبني رؤاه على فكرة المقارنة بمستويات متعددة، وعلى أبعاد مختلفة، ويأتي ذكاء النص في اللعب على هذا الجانب، لا في بنائه الشعري، إذن، الأحلام جزء من رؤية النص، ولكن، هل الأحلام ضرب خيال؟ أم وهم يسيطر على وجدان الحالم؟ أهي حكر على أحد دون غيره؟ أم تفتح بابها على مصرعيه لكل حالم؟ ولا تعرف فارقًا ماديًا أو درجات الكبر؟ وهل يمكن منع أحدهم من أن يحلم؟ هل على الأحلام قيد؟ أم هي فضاء رحب يمكن لكل شخص أن يبني عالمه الخاص؟


إن الأحلام رمز للطموح والأمل والسعي، وهي أحلام يقظة أيضًا، بهذين المعنيين يمكن تفسير الأحلام في القصيدة، فهي جزء من عالم ساحر، وخلوة للإنسان مع نفسه، وهي عالمه الماثل إن شاء، وهنا يأتي دور القصيدة، فلا تميز الأحلام بين الحالمين، ولا شروط للحلم، إن عنان الحلم حدود يختارها كل ويرسمها برشة عالمه، وهنا لا فارق بيننا، لأنه عالم بعيد، عالم لا يعترف بكل هذيان الأرض وواقع الإنسان إلا من خلال السعي.


إذن، وبعد رحلة طويلة في ثنايا النفس، وبين أصقاع الكون، وبنهاية إلى طين، يبث الشاعر رسالته بعين الوعي بحقيقة الحياة، ويفند أي حجة لدى المتكبر، فالمال والقوة والسلطة كلها وهم، والقيمة الحقيقية ليست في المال، وصاحب القيمة ليس القوي بسلطته وإنما القوي بالحب الإنسان الجميل الذي يرى الوجود جميلًا، الذي يبني سعادته على قناعته، ونظرته الخاصة لعالمه المتسع، الذي يعطي القيمة لصاحبها دون أن يشعر بنقص في قيمته أمامه، القوة الحقيقية في التصالح مع فكرة الطين واستذكار الأصل والنهاية.

شاهد أيضاً

الجزائر

وزير الخارجية وانغ يي : الصين على استعداد لتعزيز الصداقة والتعاون مع الجزائر

شفا – قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، اليوم الأربعاء، إن الصين على استعداد للعمل …