قانون التجارة الإلكترونية في فلسطين : معركة التوازن بين الإيرادات وحماية المستهلك ، بقلم : الدكتور علاء موقدي

قانون التجارة الإلكترونية في فلسطين: معركة التوازن بين الإيرادات وحماية المستهلك ، بقلم : الدكتور علاء موقدي

تشهد فلسطين في السنوات الأخيرة تحولا متسارعا نحو الاقتصاد الرقمي، حيث أصبحت التجارة الإلكترونية جزءا لا يتجزأ من حياة الأفراد اليومية، سواء في التسوق أو في عرض المنتجات والخدمات. ومع هذا النمو الملحوظ، تبرز الحاجة إلى تحقيق توازن دقيق بين حماية المستهلك من جهة، وتوسيع القاعدة الضريبية من جهة أخرى، في ظل بيئة اقتصادية معقدة وتحديات تقنية وتشريعية متزايدة.

تحول رقمي رغم الصعوبات

تشير التقارير الحديثة إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في فلسطين بلغ نحو 4.8 مليون مستخدم مطلع عام 2024، أي بنسبة اختراق تصل إلى 88% من السكان. هذه النسبة تعكس التحول الكبير الذي يشهده المجتمع الفلسطيني، خصوصا بين فئة الشباب، ما جعل السوق الإلكترونية أكثر نشاطا من أي وقت مضى.

وبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت القيمة المضافة للنشاطات الرقمية – التي تشمل التجارة الإلكترونية والخدمات المتصلة بها – نحو 372 مليون دولار عام 2024، مقارنة بـ 445 مليون دولار عام 2023، أي بانخفاض نسبي قدره 16%.

ويُعزى هذا التراجع إلى ارتفاع تكاليف التشغيل وضعف البنية اللوجستية، فضلا عن غياب تنظيم ضريبي واضح حتى وقت قريب.

وتوضح البيانات الرسمية أن مبيعات التجارة الإلكترونية تجاوزت 200 مليون دولار، مع نمو بنسبة 40% بين عامي 2018 و2019، في حين بلغت نسبة الأفراد الذين تسوقوا عبر الإنترنت 8.1%، بواقع 9.4% في الضفة الغربية و5.5% في قطاع غزة.

تشريعات جديدة لتنظيم السوق الرقمية

دخلت فلسطين مرحلة جديدة مع إقرار قانون التجارة الإلكترونية، الذي صادق عليه الرئيس الفلسطيني مؤخرا، ومن المقرر أن يدخل حيز التنفيذ بعد ثلاثة أشهر من نشره في الجريدة الرسمية.

ويهدف هذا القانون إلى تنظيم العقود والتواقيع الإلكترونية والإعلانات الرقمية، وضمان حقوق المستهلك في الاستبدال والاسترجاع، إضافة إلى مكافحة الغش التجاري والتضليل الإلكتروني.

وفي خطوة موازية، أصدرت الحكومة الفلسطينية عام 2024 قانون ضريبة القيمة المضافة (القرار بقانون رقم 26)، وهو الإطار الرسمي الأول الذي ينظم تحصيل الضريبة على السلع والخدمات بما فيها المبيعات الإلكترونية.
ويُتوقع أن يسهم القانون في توسيع القاعدة الضريبية وزيادة الإيرادات العامة.

حماية المستهلك… ركيزة أساسية

رغم التوسع الملحوظ في حجم المعاملات الإلكترونية، ما زال المستهلك الفلسطيني يواجه تحديات تتعلق بالثقة في المتاجر الرقمية، نتيجة غياب نظام شكاوى إلكتروني واضح، وانعدام جهة رقابية مختصة تتابع جودة المنتجات أو مصداقية الإعلانات.

ويحذر خبراء من أن استمرار هذا الوضع قد يُضعف من ثقة المستخدمين في السوق المحلية، مؤكدين أن تعزيز الشفافية في الأسعار، وتوضيح سياسات الإرجاع والاستبدال، ونشر قوائم بالتجار الموثوقين، خطوات أساسية لضمان سوق رقمية آمنة ومستدامة.

العدالة الضريبية… بين التنظيم والعبء

تسعى وزارة المالية إلى إدماج التجارة الإلكترونية في المنظومة الضريبية، لتحقيق العدالة بين التجارة التقليدية والرقمية. غير أن تطبيق الضريبة دون مراعاة حجم النشاط التجاري قد يدفع بعض المشاريع الصغيرة إلى العمل في القطاع غير الرسمي لتجنب الالتزامات.

وتُظهر البيانات أن أكثر من 50% من المحال التجارية غير مسجلة رسميا، في حين يُقدّر عدد المتاجر الإلكترونية غير المسجلة بأكثر من 100 متجر.

ويرى مختصون أن الحل يكمن في اعتماد نظام ضريبي تدريجي يحدد عتبات تسجيل معقولة، ويمنح إعفاءات مؤقتة أو حوافز ضريبية للمشروعات الناشئة، بحيث يتم الجمع بين العدالة والتنمية دون خنق الابتكار.

البنية التحتية والدفع الإلكتروني

يبقى ضعف خدمات الشحن الداخلي وارتفاع كلفة التوصيل من أبرز العقبات أمام ازدهار التجارة الإلكترونية. كما أن الاعتماد الكبير على الدفع عند الاستلام يحد من كفاءة المعاملات ويعرض التجار لخسائر في حال رفض الطلبات.
ويؤكد اقتصاديون أن تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني المحلية، ودعم شركات التوصيل الوطنية، وإنشاء بوابة رقمية موحدة لحماية المستهلك، هي خطوات جوهرية لتطوير هذا القطاع الحيوي.

نحو اقتصاد رقمي متوازن

يُجمع الخبراء على أن مستقبل التجارة الإلكترونية في فلسطين واعد، لكنه يتطلب توازنا حقيقيا بين حماية المستهلكين وتحقيق العدالة الضريبية.

فالتشريعات وحدها لا تكفي إن لم تُترجم إلى تطبيق فعلي وإرادة رقابية فعالة، كما أن توسيع القاعدة الضريبية يجب أن يترافق مع دعم المشاريع الصغيرة وتوفير بيئة رقمية آمنة وشفافة.

إن بناء اقتصاد رقمي فلسطيني منظم وعادل هو الرهان القادم، لأنه ليس مجرد مشروع تقني أو تشريعي، بل مسار استراتيجي نحو استقلال اقتصادي رقمي يضمن الإيرادات الوطنية ويحمي حقوق المواطن في آن واحد.