
“يوسف كتلو… حين استعاد الحجر ذاكرته ورسم الوطن على جدارية بني نعيم” بقلم : د. منى أبو حمدية
في الخليل، حيث يتكاثف التاريخ في الحجر، وحيث للذاكرة جذورٌ أعمق من الزمن، يولد الإبداع فعلاً وطنياً لا يكتفي بالجمال، بل ينهض شاهداً على الهوية. هناك، في بني نعيم، ارتفعت الجدارية الأكبر في الوطن، لا كمساحة فنية فحسب، بل كبيان بصري يعلن أن فلسطين تُكتب أيضاً بالألوان، وتُروى بالحجر، ويُعاد تشكيلها بيد فنان يعرف كيف يُصغي للمكان.
إن إنجاز الفنان يوسف كتلو لا يمكن قراءته بوصفه عملاً تشكيلياً عابراً، بل هو نصٌّ مفتوح على التاريخ، وحوار عميق بين الماضي والحاضر. فقد استطاع أن يلتقط جوهر الذاكرة الفلسطينية، ويعيد صياغتها بلغة معاصرة، دون أن ينتزعها من أصلها، أو يجرّدها من روحها الأولى. في هذه الجدارية، لا يقف الحجر جامداً، بل يتحول إلى راوٍ أمين، يحكي عن الأرض، والناس، والعمارة، وعن ذلك الخيط السري الذي يصل الأجيال بعضها ببعض.
الجدارية في بني نعيم ليست لوحةً معلّقة على جدار، بل جدارٌ أعيد تعريفه؛ صار مساحة للانتماء، ومرآةً للهوية، وسجلاً بصرياً يحفظ ملامح الوطن من التآكل والنسيان. هنا، تتجلى أعرق التقنيات الفنية المرتبطة بفلسطين، المستمدة من عمارتها التاريخية وتراثها المتجذر، حيث يتداخل الفن مع البناء، والجمال مع الوظيفة، والذاكرة مع الحياة اليومية. وكأن الفنان يعيد الاعتبار للحجر الفلسطيني، لا كمادة صامتة، بل ككائن حيّ يحمل أثر اليد الأولى، وصدى الخطوة الأولى على هذه الأرض.
لقد أبدع الفنان يوسف كتلو في تحويل الجدارية إلى فعل مقاومة ناعمة، مقاومة لا ترفع الشعارات، بل تزرع المعنى، ولا تصرخ، بل تُقيم الدليل. فالفن هنا لا ينفصل عن الوطن، بل يتماهى معه، ويصير أحد أشكال الدفاع عنه، وحمايته من محاولات الطمس والاقتلاع. كل لون في الجدارية هو موقف، وكل خط هو شهادة، وكل تفصيلة هي استعادة لحقٍّ أصيل في الرواية والوجود.
وإذ نبارك للخليل هذا الإنجاز الجمالي والوطني، فإننا نبارك لبني نعيم أن صارت جدرانها كتاباً مفتوحاً، يقرأه العابر والمقيم، ويشعر به من لم يعش الحكاية كاملة. كما نبارك لفلسطين فناناً أدرك أن اللوحة ليست إطاراً، وأن الإبداع حين يخرج إلى الفضاء العام يصبح ملكاً للناس، وجزءاً من ذاكرتهم الجمعية.
إن جدارية بني نعيم، بما تحمله من عمق فني وصدق تعبيري، تؤكد أن الفن الفلسطيني ما زال قادراً على ابتكار أدواته، وعلى صون هويته، وعلى صياغة الجمال من قلب المعاناة. وهي شهادة حية على أن هذا الوطن، مهما أثقلته الجراح، لا يزال قادراً على أن يحوّل الحجر إلى حكاية، والجدار إلى وطنٍ مرسوم، والإبداع إلى فعل بقاء.
- – د. منى أبو حمدية – أكاديمية وباحثة


شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .