
الوعي ، القطيع، والترند : كيف نحمي عقولنا وأمتنا ، بقلم : أ. أسيل العبسي
في عالمنا المعاصر، كثيراً ما يتأثر سلوك الأفراد بما يدور حولهم أكثر مما ينبع من قراراتهم الفردية الخالصة. وهنا يظهر مفهوم الوعي الجمعي، ذلك “العقل المشترك” الذي يتكوّن من المعتقدات والقيم والمعايير التي يتقاسمها أفراد المجتمع. هذا الوعي يعمل كقوة خفية تنظّم السلوك الاجتماعي وتوجّه الأفراد نحو رؤية موحّدة للعالم، مما يعزز الهوية والانتماء داخل الجماعة.
غير أن هذا الوعي الجمعي قد ينقلب أحياناً إلى ما يُعرف ب سياسة القطيع أو سلوك القطيع، حيث يميل الأفراد إلى تقليد الغالبية دون تفكير نقدي أو تمييز منطقي، مدفوعين برغبة الانتماء أو خوفاً من الرفض الاجتماعي. وهنا يصبح الخطر قائماً: إذ قد يقود الانجراف وراء القطيع إلى ترديد الباطل، أو المشاركة في سلوكيات لا تمت للحق بصلة.
وهذا المعنى نفسه جاء في القرآن الكريم في وصف حال أهل النار، حين سُئلوا: ما الذي أدخلكم سقر؟ فذكروا جملة أسباب، منها قولهم:
﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ [المدثر: 45].
أي: كنا نتحدث بالباطل، ونسير مع أهل الغفلة واللهو، نشاركهم في الاستهزاء بالحق وأهله، ونغرق في أحاديث لا نفع فيها. فجاءت الآية تحذيراً للمؤمن من الانسياق وراء سياسة القطيع في الباطل، والتنبيه إلى أن مجرد السير مع الجمع دون وعي أو بصيرة قد يكون سبباً في الهلاك.
وفي زمننا الحديث، وصل هذا السلوك إلى ما يُسمى اليوم بـ الترند على منصات التواصل الاجتماعي. فالكثير من البرامج والمحتويات الرقمية تعمل كمنظومة سياسية بحتة، أحياناً دون علاقة حقيقية بالعلم أو المجتمع، بل لتشتيت الأمة وتهيئة جهل متراكم في حياتنا اليومية. أصبحت أمهات وآباء، شباب وشابات، وحتى كبار السن ينجرفون وراء محتويات سطحية، متناسين القيم والمعارف الجوهرية، وكأننا لسنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن كتاب الله لم يعد لنا من أثر.
فلنقف ونتأمل: لماذا تُمنع هذه البرامج في بعض الدول، بينما نستهلكها بلا وعي؟ لماذا تُرى أولويات افتراضية كتعليقات ومشاركات الترند أهم من زيارة الأقارب أو متابعة تعليم الأبناء؟ جيل يذهب وجيل يأتي، والمجتمع يُبنى على المظاهر، وتُهدر الأموال دون سعادة حقيقية، في سعي لجمع الإعجابات والتفاعلات الوهمية.
هذا الانجرار وراء الترند لا يهدد السطحيات فقط، بل يهدد بيوتاً، حياة، ومجتمعات بأكملها. فإلى متى سنبقى نسير خلف كل ما نراه دون تفكير؟ فلا يكاد يزول ترند حتى يظهر غيره، ويُستبدل بسرعة البرق، ونحن نلاحقه بلا وعي.
وهنا يبرز دور الأسرة، والمساجد، والمؤسسات التعليمية. يجب أن يكون التعليم مصحوباً بالتربية، وأن يكون الدين حاضراً في حياة الأبناء، وأن تُوجه منصات التواصل لا لتضييع الوقت، بل للتعلم، للتوثيق، للتوعية، ولتعزيز الهوية والثقافة.
علينا صقل عقول أبنائنا بالقرآن الكريم، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتشجيعهم على القراءة، وطلب العلم، وممارسة الفضيلة، مع المطالبة بدروس توعوية عن مخاطر التقليد الأعمى.
وفي النهاية، علينا أن نأخذ ما يطابق ديننا وثقافتنا وقضيتنا، ونرفض كل ما يتعارض معها. نحن شعب فلسطيني مميز على مر العصور والدهور، وقادر على الموازنة بين الانتماء الجماعي، والوعي الفردي، والحقائق الرقمية في عالم اليوم.
الأخصائية الاجتماعية : أسيل العبسي