
حين تُعصَر الذاكرة ، بين العلم والحنين، بين الطاحونة والتراب ، بقلم : د. وليد العريض
كتاب “معاصر السمسم بين الماضي والحاضر” للدكتورة سارة محمد الشماس، عنوانه بسيط، لكنه أشبه بباب حجري يؤدي إلى معصرة زيت قديمة ما زالت تدور بالحُبّ والحنين. إنه ليس فقط عنواناً لبحث أكاديمي، بل مفتاح لذاكرة كاملة تنقّي الزيت من الزمن وتسكبه على جراح الوطن.
أما الإهداء، فلم يأتِ تقليدياً، بل حمل همّاً وحنيناً دفيناً للأرض وللناس الذين طحنوا بذورهم كما طحنهم الاحتلال. ومن بين سطور الإهداء تفوح رائحة التراب المُبلّل، وكأن الكاتبة تضع يديها في الطين لتخرج صورة أُمّها أو جدتها وهي تعصر السمسم وتغنّي للوطن في آنٍ واحد.
مقدمة الكتاب
منذ أول جملة، نحن أمام نشيد وجدانيّ، لا مجرد تمهيد أكاديمي. تقول الباحثة: “لا عجب أن يتمتّع الشعب الفلسطيني بإرث ثقافي غنيّ من العادات والفنون والمهن، ومن أبرزها مهنة عصر السمسم”.
وفي جملة أخرى تكشف نيتها بصدق عاشق: “فمنتجات مثل بذور السمسم وعجينة الطحينة والحلاوة الطحينية، مكونات متغلغلة في ثقافة المجتمع الفلسطيني وعاداته اليومية”.
وهنا لا نقرأ فقط عن غذاء، بل عن عشقٍ مغروس في الأرض، في اليدين، في طقوس الحياة اليومية.
بنية البحث العلمي في فصول الكتاب
جاء الكتاب في 156 صفحة فقط، لكنّه كثيف المحتوى، مشغول بدقّة كما تُدار المعصرة الحجرية.
- المنهجية العلمية المحكمة:
-توثيق دقيق: من مصادر عربية وأجنبية وتقارير دولية، إلى نصوص تراثية قديمة.
-مقارنات علمية بين زراعة السمسم في فلسطين ومناطق العالم.
-استخدام أدوات التحليل الاقتصادي والثقافي في آنٍ واحد.
استحضار مراحل التاريخ من العصر الكنعاني مروراً بالعصر الإسلامي ثم العثماني حتى الاحتلال.
- الزراعة كمقاومة:
في الفصل الأول، نقرأ:
“الزيت المستخرج من بذور السمسم كان يُخزّن في آبار محفورة بالصخر في القدس، كمخزون استراتيجي للطوارئ.” (ص. 10)
هنا، تصبح البذرة مخزناً للصمود، وليس فقط غذاءً.
- السمسم في حضارات الأرض:
في الفصل الثاني تنقلنا الباحثة إلى النصوص السومرية والآشورية:
“قصة الآلهة التي شربت نبيذ السمسم بعد المعركة الكبرى… شهادة على أن الزيت كان رمزاً للحياة لا للطهو فقط.” (ص. 17)
وكأن التاريخ نفسه يُقسم بالزيت أن فلسطين كانت هنا، وأن السمسم عاش قبل أن يولد الاحتلال.
- الفصل الزراعي البيئي
- “السمسم يُزرع في الأرض التي لا يجود فيها غيره… تماماً كما يُولد الفلسطيني في المخيم الذي لا يُنبت إلا الكرامة.” (ص. 27)
- الهوية مقابل الطمس:
تقول الباحثة:
“تعرضت مهن زراعة السمسم ومنتجاته للاستهداف… ضمن مخططات إسرائيلية لطمس الهوية الثقافية الفلسطينية.”
في هذا السياق تتحوّل المعصرة إلى متراس والزيت إلى وثيقة مقاومة لا تجفّ.
الخاتمة: زيتٌ يُضيء ولا يُستهلك فقط
كما بدأت المقدمة بنشيد، جاءت الخاتمة بدعوة:
“آن الأوان لتوثيق هذا التراث، لا من باب الحنين فقط، بل كجزء من مشروع حماية الذات الفلسطينية.”
“يجب أن تتحول معاصر السمسم إلى مواقع تراث حيّ، تُدرّس فيها الزراعة التقليدية وتُعرض كجزء من الكفاح الفلسطيني غير المسلح.”
وفي هذا الاقتراح تتجلى روح الباحثة كمناضلة لا تكتب فقط بل تدعو للحياة من قلب الطين والنار.
ما بين السطور:
ما لا يُقال مباشراً، قالته الكاتبة بلغة العيون بين السطور:
كأنها تُحدّث أمّها حين كتبت عن المعصرة.
كأنها تكتب رسالة إلى طفلها القادم حين تحدثت عن ترسيخ الهوية.
كأنها تضع يدها على الجدار وتهمس: “أنا لا أكتب عن السمسم، بل عن شعبٍ يُعصر كل يوم ولا ينكسر.”
قائمة المصادر والمراجع:
ثريّة وشاملة، تضمنت:
-دراسات أثرية وزراعية واقتصادية.
-نصوص تاريخية (سومرية، آشورية، إسلامية، عثمانية).
-تقارير دولية حول الأمن الغذائي.
-شهادات تراثية شفوية.
-ملاحظات علمية للطبعة الثانية :
- إضافة صور وشهادات ميدانية: – لقاءات مع أصحاب المعاصر الباقين في نابلس وغزة ورفح. – تصوير معاصر حجرية قديمة وتوثيقها.
- إثراء الخاتمة بتوصيات عملية: – تقديم خطة تفصيلية لتحويل المعاصر إلى متاحف حية أو مواقع تعليمية. – اقتراح شراكات مع المؤسسات الثقافية والزراعية لتوثيق المهنة وتوريثها.
- ملاحق توثيقية: – جداول مقارنة إنتاج السمسم تاريخياً. – خرائط زراعية تاريخية لفلسطين ومواقع المعاصر.
وختاماً، هذا ليس كتاباً عن السمسم… بل عن العصب الفلسطيني الذي لا يُستأصل.
هو شهادة علمية وشاعرية على أن كل حبة زيت تُعصر هي قطعة من الأرض تُستعاد.
وفي هذا الكتاب لم تكتب د. سارة محمد الشماس فقط، بل نزفت حنيناً، وأوقدت قنديلاً من زيت يُضيء ولا ينطفئ.
فمن أراد أن يعرف كيف تُصبح الزراعة مقاومة وكيف تُصبح الحبة الصغيرة أمَّةً كاملة فليقرأ هذا الكتاب وليحتفظ به في مكتبته كوثيقة عشق وعِلم في آنٍ واحد.
- – د. وليد العريض – أستاذ الوثائق العثمانية والتاريخ العثماني والعربي الحديث والحضارة الإسلامية
