
رحلة إلى قلب الحضارة: في رحاب الصين وحوارها الخالد ، بقلم : محمد علوش
حين وطئت قدماي أرض الصين، شعرت كأنني أعبر بوابة الزمن، لا إلى المستقبل فحسب، بل إلى عمق التاريخ الإنساني الممتد، حيث تتعانق الحكمة القديمة مع صخب الحداثة، وتروى الحكايات على لسان الجبال والقصور والمعابد القديمة.
كانت مشاركتي في مؤتمر حوار الحضارات في العاصمة بكين أشبه بانغماس في نهر من الفكر والرؤى، تحت قبّة جمعت وجوهاً من أصقاع الأرض، انطلقت الحوارات لا لتظهر التباين بين الشعوب، بل لتغنّي ألحان التلاقي الإنساني، تلك التي لا تعترف بجغرافيا أو لغة، بل تتكئ على جوهر الإنسان ذاته.
في بكين، مشيت فوق سور الصين العظيم، الذي بدا كأنه ثعبان حجريّ يحرس الذاكرة القومية من النسيان، هناك، حيث الصمت أبلغ من الكلمات، أدركت أن الحضارة لا تُبنى بالحديد والنار، بل بالإرادة التي تتجاوز حدود الخيال، ثم كانت المدينة المحرّمة، بعراقتها الملكية وجدرانها التي تروي قصص أباطرة وأحلام إمبراطوريات عتيقة، مدينة ما تزال تتنفس في صمت، رغم رحيل الزمن.
أيامنا في الصين كانت غنية كحقول الأرز بعد المطر، ففي مقاطعة نانيوان، سافرت إلى عمق الروح الصينية، واستمعت إلى إيقاع الحياة كما تعزفه الأكواخ القديمة والبيوت التي تعبق بالبخور والصلاة، أما قاعة يانآن التذكارية الثورية، فكانت بمثابة محطة للتأمل في مسار نضال الشعب الصيني، وكيف يتجلّى الوفاء للتاريخ في تفاصيل المكان وأحاديث الرفاق.
وفي تلك الأمكنة العابقة بالإرث الثوري والروحي، كان لفلسطين حضور لا يشبه أي حضور، على هامش المؤتمر، وفي صلبه، وفي اللقاءات الجانبية والجماعية، لم تغب فلسطين عن القلوب والضمائر، وكانت فلسطين أكثر من قضية، كانت وجداناً يتردّد على ألسنة المشاركين من مختلف القارات، حيث تحدث القادة والرفاق، وذُكرت فلسطين باعتزاز وحرقة ومحبة.
تحدث الصينيون، وعيونهم تلمع بالصدق، عن تضامنهم الثابت، وكان من اللافت أن تدرج فلسطين كقضية محورية على أجندة المؤتمر، تأكيداً على دعم الصين الثابت لنضال الشعب الفلسطيني، لا بالكلمات فقط، بل بالسياسات والوجدان المشترك.
تعانقت الأرواح قبل الأيدي، وكانت الدموع تسبق الكلمات أحياناً حين التقينا رفاقاً من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبا ومن البلاد العربية، كل يحمل صورة عن فلسطين، وجرحاً في قلبه، وكأنها قطعة من كل وطن، لا من أرض واحدة فقط، هناك شعرت أن العالم حين يلتقي على كلمة الحق، فإن لفلسطين مكانة الصدارة.
وفي زيارتي إلى ضريح الإمبراطور وجبل يوتا، شعرت أني أقف على مفترق الروح والجسد، حيث يتجسد الإيمان بالتاريخ والطبيعة معاً، وحيث تتوحد الأسطورة مع الطين. وواصلت رحلتي إلى مدينة شيآن، تلك المدينة التي تحمل على أكتافها آلاف الأعوام من المجد، والتي تقف بوجه الحداثة بجبين مرفوع، فالمتاحف التي زرتها هناك وفي المدن المجاورة لم تكن صالات من حجارة وزجاج، بل نوافذ على عالم كامل، تحكي عن علوم الصين، عن فنونها، عن أسرارها القديمة، وكل ما يجعلها حضارةً لا تموت.
لكن الأجمل من كل هذه المشاهد كان الرفاق الصينيون، الذين احتضنونا بكل حرارة، كنا ضيوفاً، نعم، لكننا شعرنا أننا أبناء البيت، نتشارك الأحلام والطعام والأغنيات، كانت الفعاليات لا تهدأ، والأنشطة لا تعرف الملل، والحوارات تمتد من قاعات المؤتمرات إلى ممرات الفنادق وحدائق الشاي، وكأن الزمن هناك يفسح المجال أمام العقل والقلب أن يتحاورا معًا.
في الصين، لم أكن سائحاً، بل شاهداً على حضارةٍ حية، على تناغم الإنسان مع تاريخه، ومع روحه، وعلى إيمان راسخ بأن الحوار لا يصنع السلام فقط، بل يصوغ مستقبلًا أكثر إشراقاً.
عدت من هناك، أحمل في قلبي ضوءاً جديداً، وفي روحي امتناناً لرحلة لم تكن كغيرها، بل كانت درساً في المحبة، والاختلاف، والتكامل، في الصين، حيث الحضارة تتنفس، وفلسطين لا تغيب.