
“كن جريئًا” مجموعةٌ نثريّة للكاتب الفلسـطينيّ همام الطوباسي من نابلس ، الصادرة عن دار المكتبة الجامعية 2025 ، بقلم : قمر عبد الرحمن
همام الطوباسي كاتبٌ وإعلاميٌ من نابلس، وهو مثالٌ رائعٌ يحتذى به من ذوي الهمم، يكتب الشعر والنثر والقصة والمسرح، يهتم بالصحافة والإعلام، ولديه صفحةٌ إعلاميةٌ يديرها عبر الفيس بوك باسم “المنصة” صدر له مجموعة نثرية بعنوان “ما بين الأبيض والأسود” دار الفاروق 2023 وقصة “نفس أرجيلة” دار الإعلام 2023
والآن “كن جريئًا” إشراف وتدقيق ميساء أبو غضيب، ولوحة الغلاف لـ بتول سعد، تظهر فيها سفينة تمشي بصعوبة وسط بحرٍ مظلم وجوٍّ عاصف، وهذه اللوحة معبّرة وتعكس الحالة الوجدانية والاجتماعية التي يعانيها الكاتب من خلال تجاربه مع الحياة برفقة كرسيّه المتحرك، حيث يحاول الانتصار على إعاقته بالمواجهة، مواجهة المجتمع والحب والوطن، حتّى تصل السفينة بأمان للبر والاستقرار، والاستقرار هنا على المستويين النفسي والوطني.
قرأت لهمام سابقًا قصة “نفس أرجيلة” وشجعته على الاستمرار في الكتابة، فالتجربة والخطأ يعلمان الإنسان أن يتقدم بثقة الحكيم وفعل، وفي “كن جريئًا” لاحظت تقدمًا باللغة والتعبير، إذا ما صرفنا النظر عن الأخطاء الإملائية والنحوية. “كن جريئًا” العنوان مقتبس من نصٍ من ذات الكتاب، وهو أشبه بالحوار بين رجلٍ وامرأة عن المعنى العميق للجرأة، “كن جريئًا يا قلمي، وبح بسرّي للعالم أجمع”
يبدأ الكتاب بالإهداء لأبيه ولأمّه الذي تأثر بهما وما زال، فهما أهم ركيزتين للتطور المسؤول، والإبداع المتجدد. يعتمد في بداية نصوصه الوجدانية على الخيال، بل للخيال حصة الأسد في النصوص، فهو يتخيل من يحب ويرسم لقاءً وحبًا وكلمات بريشة الخيال، وهي ريشة كلّ شاعر إذا ما أراد التماهي في الإحساس “أتخيل بسمتك المتسللة إلى شفتيك لترسم في عينيك كل الجمال”
يعترف في نصوص عديدة “أن حب الأوطان تهمة” “ولا أحد يحتفل بيوم حقوق الإنسان لأنه كذبة نيسان الدائمة”
يتحدث بإسهاب عن الحب والرحيل والإنسان والوطن والعيد، وفي كلّ مفردة فرحٍ صبغةٌ واضحةٌ من الحزن الكثير، تجلت في مشاعر الحرب والحرمان والجوع للحياة العادية، وهو واقعٌ لا يمكن أن يتجاهله أي شاعر مهما بلغ من التفاؤل.
كما أن لمسات الوفاء تظهر في نصوص كثيرة، في نص للكاتب الراحل محمد البيتاوي، وهو صاحب دار الفاروق في نابلس، حيث كان داعمًا له في أيام حياته، “كم اشتقت للوقوف لجانبك ولسماع حروفك الأبجدية، وهي تخرج من فيك المبتسم”
نصٌ للمعلمة غانية إحسان الدنبك، حيث يتساءل فيه “لماذا يموتون الذين كانوا سببًا من أسباب السعادة” ونصٌ لروح الشهـيد بسام السائح “يا سجون الدنا زفّي شهـ ـيدًا كان بك متعبدًا سائحًا، كان بك صابرًا” ونصٌ آخر للمعلمة المخلصة سمر أبو مشط، وآخر للأخت ميساء أبو غضيب، وإلى أمّه زكية حماد، في نص “بحة الصوت” ونصوص كثيرة عن شهداء غـ ـزّة، وهذا إن دل فإنه يدل على الكاتب الوفي لأصدقائه ولأهله ولأبناء وطنه.
ما زال همام في كلّ سطرٍ من سطور الكتاب يرفض القمع والظلم الذي يقع على العاشق والكاتب والمناضل والأسير والحالم والعامل في هذا الوطن الذي يتسابق مع الهموم سباقًا مرهقًا، ويرفض الذل والمشي خلف القطيع، ليعيش بسلامٍ مزيف، إنما يريد سلامًا حقيقيًا لا شائبة فيه، فهو “متمسكٌ بهذه الحياة البائسة من أجلها” يدافع عن حبه ووطنه بقوةٍ وحزم، ويستعيد ذكرياته في المدرسة، والشارع، والبيت، ويشرح علاقته بالأصوات والطرقات والباعة في قصيدة “رغم المسافات” ويحن للحياة العادية البسيطة الخالية من الزيف المنتشر.
الكتاب مزيجٌ من الحب والذكريات والحنين والوطن والمعاناة، وهو حال العربي في وطنه للأسف، حيث يخاف أن يضحك عميقًا، لأنه يعلم أن الضحكة محاصرة بالخذلان القريب أو البعيد لا محالة، يحاول همام التمرد على معنى الحب، وعلى واقعه الصعب، فهو من ذوي الهمم، وهذا يزيد الواقع صعوبة، حيث يقول “أعشق النساء وأنا المقعد هنا، وهن لا يبالين بحبي الصادق لهن” “في الحب أصبحت أحلامنا كبيرة” وفي نص آخر “اسمي عاشقٌ بلا أنثى حقيقيّة تحمل نعشي معكم، انتظروا قليلًا حتّى تصل، وأعلم أنها لا تصل” وهذه السطور تعكس وجعًا عميقًا في داخله.
تطرق أيضًا للحدث الأكبر السـ ـابع من أكتوبر ” سيعلم كلّ خائن كيف يتجدد النصر” كما تكلم باستفاضةٍ عن وجع غـ ـزّة وشهدائها العظماء، ولم ينس الشهيدة شيرين أبو عاقلة في نصٍ مؤثر” أي عرسٍ كان أو سيكون من بين الإسلام والمسيحيين، استشهادك لم يكن حدثًا عابرًا لأنه وحد الصفوف أمام الملايين”
كما عثرت على نصٍ باللهجة المحكية بعنوان” دكان قبال دكان” نصٌ جميلٌ وسلس، وكأنه أغنية من أغنيات فيروز. ومرة أخرى الجمال في نص “لعبة المكعب” ينسيه أنه مقعد فيقول” أمام عينيك أنسى أني عليل، أو أملك علة في جسدي المقعد”
“في المخيلة أحلامٌ كبيرة” من نص “رغم الحصار” عبر فيه عن شعوره بالضيق بسبب كثرة القتل والاغتيالات، وكيف تتقلص الأحلام لدى الفلسـطينيّ بالذات؟ ثم يحلم بكبرياء “أتقتلون الشمس قبل شروقها، أطفالنا رجال رغم الحصار” وفي نصوصه عن الحـ ـرب شرح كيف تؤثر الحـ ـرب على الطفل والمرأة والشباب والشيوخ وذوي الهمم.
امتازت النصوص بالسلاسة واللغة البسيطة غير المعقدة، وطغت على النصوص مشاعر الحنين والشجن والأمنيات الخجولة، ويتفاءل في النهاية “النصر قادمٌ لأن النصر لا ينام” بتعبيرٍ بسيطٍ وعميق. وأخيرًا جميعنا بانتظار النصر الموعود يا همام، شكرًا لثقتك الدائمة وبانتظار إبداعاتك المستمرة والمثمرة بإذن الله.