
شتّان بين من مهنتهم الأيديولوجيا… وبين من حوّلوها إلى فنٍ ومقاومةٍ وحقّ في الحلم ، بقلم: رانية مرجية
ليس ثمة ما هو أوجع من الأيديولوجيا حين تصبح مهنة، لا رؤيا. ولا ما هو أبهى منها حين تتجسّد كأملٍ حار، وكموقف فنيّ، وكفعلٍ إنسانيّ مقاوم يخرج من الأحشاء لا من الأرشيف.
شتّان، نعم شتّان، بين من يعتاشون على الأيديولوجيا كبضاعة معلبة، يلوّحون بها في المناسبات الوطنية، الدينية، أو الفصائلية كأنها بطاقة عضوية في نادٍ منقرض، وبين أولئك الذين جعلوا منها نبضاً يُبدع، يُربّي، يُبني، ويُضمّد جراح الجماعة دون أن يطلب تصفيقاً.
في زمنٍ يكثر فيه المتحدثون باسم الحقيقة، باسم الوطن، باسم الربّ، باسم الهويّة، تصبح الأيديولوجيا فخّاً محكماً، خندقاً لغويًا يُختبأ فيه الخوف، وتُكمم فيه الأسئلة، ويُعدم فيه الإبداع. هؤلاء لا يملكون الجرأة على الحلم. لأن الحلم لا يخضع للنص الحزبي، ولا يسير ضمن أوامر التنظيم.
كم من مرة رأينا من “يؤدلجون” كل شهيق وزفير، ولكنهم حين يسقط طفلٌ على حاجزٍ، أو يُعتقل رسّامٌ شاب لأن ريشته رسمت جسدًا محتلًا، لا يتحرك فيهم شيء؟ لأن الأيديولوجيا لديهم ليست جسداً يرتجف، بل خطاباً يتصلّب. ليست رغبة في الشفاء، بل رغبة في السيطرة على الألم.
أما أولئك الذين حملوا الأيديولوجيا في دمهم لا في جيوبهم، فقد رأيناهم يكتبون القصيدة لا لأنهم شعراء، بل لأن الحرف يقيهم الجنون. رأيناهم يعزفون أوجاعهم في الزوايا المظلمة من الذاكرة، ويرسمون الوطن بأسنانهم حين تنكسر أقلامهم. لا يبحثون عن منصب، بل عن شمس. لا ينتظرون وساماً، بل وعداً بالكرامة.
شتّان بين شاعرٍ يغني لفلسطين لأن اسمه لن يُكتب دونها، وبين من يلوك اسمها في كل لقاء ليضمن نشر صورته في صدر الجريدة.
شتّان بين مَن يمارس الأيديولوجيا كفنّ أخلاقيّ مقاوم، فيه من الحنان أكثر مما فيه من الشعارات، ومن الصمت أكثر مما فيه من التصفيق، وبين مَن جرّدها من بعدها الإنساني، من بعدها الجماليّ، من بعدها النفسيّ.
تلك الفئة الأولى تؤمن أن الأيديولوجيا بلا شغفٍ هي أداة قمع جديدة، وبلا فنٍّ هي عقيدة عمياء، وبلا محبة هي كراهية بألوان مُجمّلة. أما الفئة الثانية، فتلبسها كدرع، تقي بها نفسها من النقد، وتخنق بها الاختلاف.
في مسارنا الثقافي الفلسطيني والعربي، رأينا من يخطّ بدمه فلسفة نضاله: فنانات خرجن من الملاجئ ليقدمن عروضًا تشبه الوجع لا البروتوكول، شعراء لم يعرفوا المسرح إلا كمنصة للشهادة، معلمين جعلوا من قاعة الصفّ حقلًا للتحرير الداخليّ قبل التحرير الخارجيّ.
هؤلاء لا يركضون نحو الميكروفون، بل نحو الطفل المرتبك، نحو اللاجئ المنسي، نحو الجدار الذي لم يسقط بعد.
وهؤلاء، وحدهم، من يستحقون أن تُصاغ أسماؤهم من عطر الذاكرة.
الأيديولوجيا الحقة هي تلك التي تمنحك صوتك، لا تلك التي تمليه عليك. هي تلك التي تزرعك في أرضك، لا تلك التي تقتلعك لتغرسك في لافتة. هي التي تُحرّرك من الخوف، لا التي تجعلك تخاف من حريتك.
شتّان بين من مهنتهم الأيديولوجيا… وبين من جعلوا منها صلاةً بلا محراب، فعلًا بلا مكافأة، حبًا بلا قيد، وحلمًا لا يموت.
وكم نحن بحاجة اليوم، في زمن الخراب المعنوي، أن نعيد الأيديولوجيا إلى مكانها الطبيعي: فعل حبّ… وفنّ حرّ… ونبض لا يخاف من أن يكون هشًّا.
- – رانية مرجية – كاتبة فلسطينية