
الكراهية الداخلية … الاحتلال الأخطر الذي يسكننا ، بقلم : محمد التاج
منذ سنوات طويلة، ونحن نعيش حالة من الانقسام السياسي والاجتماعي في فلسطين، لكن ما نشهده اليوم تجاوز حدود الخلاف الطبيعي بين تيارات سياسية، ليتحول إلى كراهية داخلية متجذرة، تهدد نسيجنا الوطني أكثر مما يفعل الاحتلال ذاته.
لم يعد الفلسطيني يرى في أخيه المختلف سياسيا أو فكريا شريكا في الهم، بل خصما في المعركة، وعدوا ينبغي سحقه بالاتهامات والتخوين والشتائم. صارت السوشيال ميديا ميدانا لمعركة دائمة بين أبناء الشعب الواحد، لا ينجو منها أحد. ما إن تكتب رأيا أو نقدا أو حتى تساؤلا، حتى تنهال عليك السهام من كل صوب: أنت خائن، عميل، مأجور، صاحب اجندة، أو تسعى للفتنة.
هذه ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل تحول نفسي وثقافي خطير يمزق الشعب الفلسطيني من الداخل، ويفقده القدرة على التمييز بين من يقف معه ومن يقف ضده. والأخطر أن هذه الكراهية باتت تمارس باسم “الوطنية” ذاتها، وكأن حب الوطن صار مرادفا لكره الآخر.
من أين جاءت كل هذه الكراهية؟
إنها ثمرة مرة لانقسامٍ سياسي دامٍ عمره ما يقارب العقدين، انقسمت فيه الجغرافيا والعقول والنفوس. لم يقتصر الانقسام على المؤسسات أو الأجهزة، بل تسلل إلى اللغة والمناهج والإعلام والعلاقات الاجتماعية وحتى الأسر. كل طرف بنى لنفسه رواية مقدسة عن الوطن والمقاومة والشرعية، وأغلق الباب في وجه أي رواية أخرى. فصارت “الوطنية” تقاس بالولاء للفصيل لا للوطن، وبالموقف من السلطة أو المقاومة لا بالموقف من فلسطين.
الإعلام الحزبي لعب الدور الأخطر في هذه الجريمة، إذ تحول من وسيلة توعية إلى آلة تعبئة وتحريض. بدل أن يزرع فينا الوعي الجمعي، زرع فينا الشك المتبادل. كل قناة تبني وعيا مضادا للأخرى، وكل خطاب يغذي الغضب أكثر مما يبني الفهم. وهكذا أصبح الفلسطينيون أسرى روايات متناقضة تنتج جيوشا من الغاضبين الذين لا يسمعون إلا صدى أصواتهم.
وما يزيد الطين بلة أن هذه الكراهية لا تغذى فقط من الداخل، بل من الخارج أيضا. فالاستخبارات الإسرائيلية، وعلى رأسها “الوحدة 8200”، تدير منذ سنوات جيشا إلكترونيا واسعا من الحسابات الوهمية بأسماء عربية وفلسطينية على منصات التواصل، مهمتها إثارة الفتنة الداخلية وتشويه الرموز الوطنية وتضخيم الخلافات بين الفصائل والمناطق. هؤلاء لا يطلقون الرصاص، بل يزرعون الشك في العقول والقلوب، ويديرون حروبا نفسية صامتة تجعل الفلسطيني يكره أخاه أكثر مما يكره عدوه. إنها حرب ناعمة، أخطر من الصواريخ، لأنها تصوب إلى الوعي مباشرة، وتحول الفلسطينيين إلى أدوات في معركة الوعي ضد أنفسهم.
ويضاف إلى ذلك الإحباط العام الذي يعيشه الناس منذ سنوات. لا أفق سياسي، ولا عدالة اقتصادية، ولا شعور بأن التضحيات تؤدي إلى نتيجة. حين يغيب الأمل، يتحول الغضب إلى طاقة عمياء، تبحث عن هدفٍ قريب لتفريغها، فتجد في المختلف السياسي أو الاجتماعي ضالتها. لذلك ترى الشتائم أسرع من التفكير، والردود الانفعالية أقوى من الحجة، والناس تبحث عن الانتصار في نقاشٍ على “فيسبوك” لأنهم عاجزون عن تحقيق أي انتصارٍ في الواقع.
الاحتلال بدوره يتغذى على هذا المشهد. لا يحتاج اليوم إلى اختراقنا أمنيا، لأنه اخترقنا نفسيا وفكريا منذ زمن. هو يراقب من بعيد كيف ندمر أنفسنا بأنفسنا، كيف نفرغ طاقتنا في صراعات داخلية لا تنتهي، وكيف نفقد تدريجيا شعورنا بالانتماء الواحد. لقد أصبح الاحتلال يسكننا قبل أن يسكن أرضنا.
خطورة هذا الواقع لا تكمن فقط في الخطاب، بل في أثره العميق على الأجيال الجديدة. الطفل الذي يرى أباه يلعن أبناء منطقته الأخرى، أو يسمع المعلم يتهكم على جهة سياسية، يكبر وهو يحمل في داخله بذور العداء. وهكذا، بدل أن نورث أبناءنا الوعي والكرامة، نورثهم الانقسام والريبة واللغة المسمومة.
ما العمل إذن؟
المعالجة لا تأتي بقرارات فوقية، ولا بخطابات المصالحة الشكلية التي تذاع ثم تنسى. الحل يبدأ من الثقافة، من إعادة بناء الوعي الجمعي على أسس الاحترام والتنوع والحوار.
علينا أن نتعلم من جديد أن الاختلاف لا يعني الخيانة، وأن النقد لا يعني الهدم. أن تقول رأيا مغايرا لا يجعل منك خصما، بل يجعل منك جزءا من النقاش الوطني الضروري لبناء مستقبل أفضل.
من هنا تأتي الحاجة إلى إحياء ثقافة الحوار الوطني، داخل الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام. نحتاج إلى جيل يعرف كيف يناقش لا كيف يصرخ، كيف يختلف دون أن يكره، وكيف يرى في خصمه شريكا في الوطن لا عدوا يجب إسقاطه.
كما أن على النخب الفلسطينية – الكتاب، والأساتذة، والإعلاميين – أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية في تهدئة النفوس بدل تأجيجها. الكلمة ليست بريئة، وكل من يملك منبرا هو مسؤول عن مستوى الوعي الذي يصنعه أو يهدمه.
والأهم من ذلك كله، علينا أن نعيد الاعتبار للفكرة التي غابت وسط ضجيج الشعارات: نحن شعب واحد تحت احتلال واحد. كل معاركنا الداخلية مؤجلة أمام معركتنا الكبرى: الحرية.
لا يجوز أن نفرط في وحدتنا التي كانت سر قوتنا الأولى. في زمن الانتفاضات، لم يكن أحد يسأل الآخر عن فصيله، لأن الجميع كانوا يعرفون أن الدم الفلسطيني واحد، والعدو واحد، والمصير واحد.
اليوم، ونحن نغرق في انقساماتنا، علينا أن نسأل أنفسنا بصدق: هل نكره الاحتلال حقا كما نكره بعضنا البعض؟ هل صارت المعركة بيننا أهم من معركتنا معه؟
إن الإجابة المؤلمة على هذه الأسئلة هي ما يجب أن يهز ضمائرنا جميعا، لأن الكراهية التي تسكننا قد تتحوّل إلى احتلالٍ داخلي أبشع من أي احتلال خارجي.
نعم، ما نحتاجه ليس مصالحة سياسية فقط، بل مصالحة نفسية وثقافية بين أبناء الشعب الواحد. مصالحة تعيد للناس ثقتهم ببعضهم، وترمم ما تهشم في القلوب والعقول. مصالحة تجعلنا نرى في النقد حبا وفي الخلاف فرصة، لا تهديدا.
لن نتحرر ما دمنا سجناء كراهيتنا.
ولن نستعيد وطننا ما لم نستعد إنسانيتنا أولا.