
غزة بين هدير الحرب وأفق السلام نحو إعادة الإعمار وبناء الوحدة الوطنية ، بقلم : معروف الرفاعي
.
بعد أشهرٍ طويلة من الدمار وسيل الدماء الذي لم يتوقف، تلوح في الأفق بوادر اتفاقٍ لوقف الحرب بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس في قطاع غزة، اتفاقٌ يبدو للوهلة الأولى كنافذةٍ صغيرةٍ في جدارٍ كثيفٍ من الألم، لكنه يحمل في طياته آمالاً كبيرة لشعبٍ أنهكته الحرب والحصار والانقسام. فغزة اليوم لا تحتاج فقط إلى هدنةٍ عسكرية، بل إلى هدنةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ وإنسانيةٍ تعيد للإنسان الفلسطيني كرامته، وللبنية التحتية مقومات الحياة، وللمشهد الوطني توازنه ووحدته.
الحديث عن “ما بعد الحرب” في غزة هو حديث عن كارثةٍ إنسانيةٍ كبرى تركت آثاراً عميقة على الإنسان قبل المكان، فالمنازل المدمّرة والمستشفيات المنهارة ليست سوى ملامح أولى لمأساةٍ أكبر عنوانها فقدان الأمن والملجأ والتعليم والعلاج، وعشرات آلاف الجرحى ينتظرون فرص العلاج داخل غزة وخارجها، وآلاف العائلات بلا مأوى أو معيل، فيما تتفاقم الأزمات المعيشية وسط بنيةٍ اقتصاديةٍ محطّمةٍ بالكامل.
هنا، يتجلى الدور المنتظر من المجتمع الدولي، ليس فقط في تقديم المساعدات المالية، بل في تبنّي رؤية شاملة لإعادة إعمار الإنسان والبنيان، تضمن العدالة في التوزيع والشفافية في الإدارة، وتمنع تسييس الإغاثة أو استخدامها كورقة ضغطٍ سياسيةٍ أو تفاوضية.
لقد آن الأوان أن يثبت المجتمع الدولي صدقيته الأخلاقية بعد أن شاهد، بالصوت والصورة، ما جرى في غزة من جرائم إبادةٍ وانتهاكاتٍ ممنهجة، فإعادة الإعمار يجب أن تكون مشروعاً دولياً متكاملاً يركّز على إحياء الحياة لا مجرد ترميم الأنقاض، وعلى إعادة تأهيل الإنسان الفلسطيني نفسياً وصحياً وتعليمياً، بوصفه جوهر الصمود والبقاء، ولا يمكن لأي خطةٍ أن تنجح ما لم تُرفع القيود المفروضة على الحركة والمعابر، وما لم يتم ضمان حرية العمل للمنظمات الإنسانية والوكالات الدولية في بيئةٍ آمنةٍ ومستقرة.
لكن لا إعمار بلا وحدة، ولا مستقبل لغزة بمعزلٍ عن الضفة الغربية والقدس، إذ إن أخطر ما يمكن أن يحدث بعد وقف إطلاق النار هو العودة إلى منطق المحاصصة والانقسام الذي قادنا إلى ما نحن فيه منذ أكثر من عقد ونصف.
المصلحة الوطنية يجب أن تُرفع فوق كل الحسابات الحزبية، ويجب أن تدرك القوى الفلسطينية أن الشعب الذي صمد في وجه القصف والحصار يستحق قيادةً موحّدةً تعبّر عن تطلعاته لا عن مصالحها الخاصة، فالوحدة الوطنية اليوم ليست شعاراً سياسياً بل ضرورة وجودية، لأن غيابها يعني ببساطة تكرار الكارثة بوجوهٍ مختلفة.
من أهم دروس الحرب وما بعدها أن الشعب الفلسطيني بحاجةٍ إلى تجديد شرعية مؤسساته وقياداته، وهذا ما تحدث عنه الاخ الرئيس مؤخرا في أكثر من مناسبة، فالطريق إلى بناء مشروع وطني متجدد يبدأ بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية حرة ونزيهة، تفرز قيادةً جديدةً تعبّر عن إرادة الجماهير وتعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته السياسية.
كما أن منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بحاجةٍ إلى إعادة تفعيل وتجديد في أطرها وهياكلها بما يعيد لها دورها الريادي في قيادة النضال الوطني، ويضمن تمثيل جميع القوى والفصائل التي تعترف – كما اشترط السيد الرئيس- بالشرعية الدولية، دون إقصاء أو احتكار.
تشكيل حكومة منتخبة نابعة من المجلس التشريعي وممنوحة الثقة الشعبية هو الضمانة الأولى لتحقيق العدالة في توزيع الموارد، والشفافية في الإعمار، والاستقلالية في القرار الوطني.
إن التوصل إلى وقف الحرب ليس نهاية الطريق، بل بدايته، فالمطلوب اليوم صياغة رؤية وطنية جامعة تتعامل مع غزة لا كملفٍ إنساني فقط، بل كقضيةٍ سياسيةٍ مركزية في المشروع الوطني الفلسطيني.
هذه الرؤية يجب أن تقوم على ثلاث ركائز:
- الوحدة الداخلية كضمانةٍ للموقف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
- العدالة الإنسانية التي تضع كرامة المواطن وحقوقه في صدارة الأولويات.
- الشراكة السياسية في القرار والمصير، بما يعيد الاعتبار لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
غزة اليوم تقف على أعتاب مرحلةٍ جديدة، تتنازعها آلام الحرب وآمال النهوض، وما بين الركام والدماء، يولد مجدداً الأمل بأن يكون الدم الفلسطيني دافعاً للوحدة لا سبباً لمزيدٍ من الانقسام.
إن إعادة إعمار غزة ليست مهمة هندسية أو مالية، بل قضية وطنية وإنسانية وأخلاقية تتطلب إرادة سياسية شجاعة، وقيادة مسؤولة، ومجتمعاً دولياً يضع العدالة فوق المصالح.
فالوطن الذي يعاد بناؤه على أسس الكرامة والوحدة والحرية، هو وحده القادر على الصمود في وجه العدوان، وبناء مستقبلٍ يستحقه أبناؤه.