
متى تعود حرية السهرات الليلية وننام قريري العين ، لوحة الفنان محمد الدغليس ، بقلم : د. وليد العريض
في الأزقة الزرقاء التي تضيئها لمسة القمر، تقف البيوت كأشجار زيتون ضاربة الجذور، لا يقدر عليها فأس ولا ريح. نوافذها عيونٌ ساهرة، تحفظ سرّ المكان وتغفو على همسات الأهل فوق السطوح، حيث كان الليلُ عرسًا للضحكات
والقمرُ شاهدًا على صفاء القلوب. ليست الحجارة هنا جمادًا، بل ذاكرة حية، تُحدّثنا عن وطنٍ وُلد من الحلم وصار أبدًا في الروح.
لكن خلف الألوان الحالمة، يسكن وجع سبعة عقود ونصف من القهر. خمسة وسبعون عامًا وفلسطين تنزف وثمانية وخمسون عامًا في الضفة تحت وطأة القيد. نصفها تاه في المنافي ونصفها الآخر رحل شهيدًا أو غاب أسيرًا. ظلام يتربّص بالناس:
قتل وتشريد، اعتقالات وجرحى وشهداء، بيوت تُهدم، أراضٍ تُصادر، أشجار تُقتلع، سنابل تُحرق وشوارع يعبث بها الحديد والحواجز. كأن الليل هناك طويل بلا فجر وكأن المأساة قدرٌ يُتلى على الأجيال جيلاً بعد جيل.
ومع ذلك، يبقى الحنين أقوى من الحديد والنار. حنينٌ إلى البيوت العامرة بالسهرات، إلى الأزقة التي حفظت وقع الأقدام، إلى القمر حين كان يطلّ صديقًا لا شاهداً على الدم. هذا الحنين ليس شوقًا فقط، بل صمودٌ يتجدّد، كصمود البيوت العتيقة التي لم تنحنِ وكأشجار الزيتون التي تُعيد ميلادها كل عام وكأهل سلفيت وفلسطين الذين يربطون أرواحهم بالأرض كما تُمسك الجذور بتربتها. إنهم يقاومون بذاكرتهم، بصبرهم وبحبهم الذي لا ينطفئ. فالعودة ليست احتمالًا، بل وعدٌ يضيئه القمر كل ليلة، وأملٌ يتوارثه الأطفال كما يتوارثون اللغة والاسم.
وسيأتي اليوم…
تعود فيه حرية السهرات الليلية
وننام قريري العين،
لا يوقظنا خوف ولا يطاردنا ليل،
يومٌ ينهض فيه الحجر ليبتسم
وتُفتح فيه النوافذ على ضحكاتٍ جديدة
ويُقال عند أبواب البيوت:
ها قد عاد الغائبون
وعادت فلسطين إلى حضنها الأول.
حُلم العودة
سَتَعودُ يا وَطَني وَإِن طالَ المَدى
فَالزَّيتُ يَحفَظُ سِرَّهُ في المَهدِدا
سَتَعودُ أَطيارُ القُرى مِنهَلَّةً
وَالأَرضُ تُزهِرُ بَعدَ طولِ تَشَرُّدا
مَهماً تَشَتَّتَ أَهلُها فَحَنينُهُم
نارٌ تُذيبُ القَيدَ حَتّى يَشهَدا
لا لَيلُ يَقهَرُ حُلمَها أَبَدًا وَلا
جُرحٌ يُطيلُ على القُلوبِ تَبَدُّدا