
من التحذير إلى الاعتراف.. ماذا بعد إعلان المجاعة في غزة؟ بقلم : بديعة النعيمي
لأول مرة منذ بداية الحرب على غزة، تعلن “الأمم المتحدة” رسميا وجود مجاعة في القطاع المحاصر، عبر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي “IPC”، وهو أعلى جهة أممية معنية برصد الأزمات الغذائية حول العالم.
لكن هذا الإعلان، جاء متأخرا، فالجوع القاتل والموت البطيء كانا حاضرين منذ أشهر، وأصبح مشهد الأطفال الذين يموتون جوعا واقعا يوميا في مناطق القطاع من شماله حتى جنوبه.
لكن لماذا الآن؟ ولماذا تصر الأمم المتحدة
التي ولدت من رحم التسويات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وأُنشئت أساسا لضمان استمرار “شرعية” الكيان الصهيوني، وغضت الطرف لعقود عن كل جرائمه. اليوم، هاي هي تعلن المجاعة وتتحدث بعد شهور من الصمت والتواطؤ، فهل تحاول بهذا الإعلان التملص من مسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية؟ أم أنه الضغط الشعبي المتزايد؟ أم أن المجاعة تجاوزت مستوى لا يمكن تجاهله دوليا؟
على كل الأحوال إن هذا الإعلان يعتبر تحول سياسي، يفرض على المجتمع الدولي، وفق “القانون الدولي الإنساني”، اتخاذ إجراءات عاجلة مثل وقف العمليات العسكرية، وفتح المعابر فورا، وتأمين دخول منظمات الإغاثة وعلى رأسها “الأونروا” التي جرى تجفيف مواردها وتقييد عملها في الأشهر الماضية ومحاسبة المجرم.
ولكن يبقى التحدي الحقيقي، في الجهة التي ستمنع تنفيذ هذه الإجراءات. إنها الولايات المتحدة رأس الشيطان والتي ما فتئت منذ بداية الحرب الغاشمة، عن استخدام ما يسمى بحق النقض “الفيتو” في “مجلس الأمن” أربع مرات، لإسقاط قرارات تدعو لوقف إطلاق النار، أو فتح الممرات الإنسانية، أو حتى التحقيق في جرائم الحرب. ففي كل مرة، كانت الإدارة الأمريكية تبرر استخدام هذا “الفيتو” بذريعة “الدفاع عن دولة الاحتلال”، في تجاهل سافر لحقيقة أن المدنيين العزل في غزة يُجوّعون عن قصد من قبل دولة الشتات ليموتوا. وهو سلاح آخر للحرب على أهلنا في غزة وقد استخدمته منذ بداية الحرب، أي أنه ليس بالسلاح الجديد ولكنه تفاقم بعد عودة الحرب وخرق مفاوضات 19/يناير من قبل دولة الاحتلال.
والجدير بالذكر أن “الأمم المتحدة” نفسها، في جلسة “مجلس الأمن” بتاريخ 27/فبراير/2024، حذرت بوضوح من أن “المجاعة باتت وشيكة جدا” في غزة، ودعت إلى تحرك دولي فوري. ومع ذلك، لم تنفذ أي من التوصيات، بل استمرت الحرب، وشُدد الحصار، وفُرضت قيود خانقة على دخول المساعدات، ما تسبب بانهيار النظام الغذائي والصحي بالكامل في القطاع. فما فائدة تحذيراتها وتوصياتها الفخرية، التي ما صدرت منها إلا من قبيل رفع العتب؟
واليوم، لا مجال للتوصيات الكاذبة، إن إعلان المجاعة يجب أن يكون إعلانا لنهاية الصمت، وبداية محاسبة حقيقية للمسؤولين عن إيصال الوضع إلى هذه الدرجة من الانهيار بقيادة دولة الاحتلال وداعميها في واشنطن والدول الأوروبية والكثير من العربية.
اليوم يجب أن تنتهي الحرب وتُفتح المعابر دون قيد أو شرط، وأن يُسمح ل “الأونروا والمنظمات الدولية” بدخول غزة فورا كما ويجب أن تُمارس ضغوط سياسية وقانونية على من يعرقل هذا المسار، أيا كانت مكانته الدولية.
أما استمرار التفرج على المجاعة باعتبارها “أزمة إنسانية فقط” فهو خيانة، لأن المجاعة كما ذكرنا آنفا ما هي إلا سلاح ممنهج. وإذا عجز “مجلس الأمن” عن وقفها، فإن “الفيتو” الأمريكي يكون قد تجاوز مرحلة الدعم السياسي، إلى الشراكة الحقيقية مع جرائم الإبادة وهو بالفعل مشارك أساسي منذ بداية الحرب، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان.
في النهاية، ما حدث يكشف عن هشاشة العدالة الأممية حين تصطدم بمصالح الكبار. المجاعة في غزة ستبقى وصمة عار على جبين هذا العالم، ما لم تتحول البيانات والنداءات إلى قرارات تُنفذ، لا تُجهض في أروقة مجلس الأمن.