
الموروث الشعبي والتربية ، تحليلاً من خلال هويتنا الفلسطينية ، بقلم: رانية مرجية
منذ العصور القديمة، كان الموروث الشعبي هو الجسر الذي يربط الأجيال، ويشكل الهوية الثقافية والفكرية للشعوب. وفي سياق الشعب الفلسطيني، يتخذ هذا التراث بعدًا عميقًا وواقعيًا، إذ لا يقتصر على كونه سجلًا تاريخيًا، بل يصبح أداة فاعلة في تشكيل الشخصية الاجتماعية وتعزيز الانتماء الوطني، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها شعبنا الفلسطيني.
وفي هذا الإطار، يأتي تحليل الأستاذ جميل السلحوت لمفهوم “الموروث الشعبي والتربية” ليضع بين أيدينا رؤى نقدية وواعية حول دور التراث في تشكيل هويتنا الفلسطينية، وكذلك تأثيره في تربية الأجيال الجديدة. في مقالته العميقة، يُبرز السلحوت كيفية تأثير التراث الشعبي في مجتمعنا، ويعكس العلاقة القوية بين التربية والموروث الثقافي الذي يصوغ شخصية الطفل الفلسطيني، ويعده ليكون جزءًا فاعلًا في مقاومة الاحتلال ومحاولات الطمس الثقافي.
التراث الشعبي الفلسطيني: أكثر من مجرد ذاكرة تاريخية
التراث الشعبي الفلسطيني، كما يراه السلحوت، ليس مجرد مستند تاريخي يعكس ماضي أمتنا، بل هو حياة متجددة تظل نبضًا في الذاكرة الثقافية والفكرية. هو سلوك حي، وممارسة مستمرة، تُبنى عليه الهويات وتُصاغ القيم. فالأغاني، والأمثال، والحكايات الشعبية التي تُنقل من جيل إلى جيل، ليست مجرد كلماتٍ ترددها الألسن، بل هي مكونات أساسية في تشكيل عقليتنا الجمعية، وتعزز ثقافة الوعي بالماضي، والحفاظ على أمل المستقبل.
ورغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة لطمس هذا التراث وتشويهه، تبقى الشواهد المادية والثقافية شاهدة على الوجود الفلسطيني، من الآثار والمباني إلى الطعام الفلسطيني الذي أصبح جزءًا من الموروث العالمي. هنا، يفتح السلحوت نقاشًا حول أهمية الحفاظ على التراث الشعبي الفلسطيني وتوثيقه كخط دفاع أول ضد محاولات محو الهوية الفلسطينية.
التربية الشعبية: أداة تنشئة ونقل القيم
يُظهر السلحوت كيف أن التربية في المجتمع الفلسطيني تُعتبر عملية مستمرة تتجاوز أسوار المدارس، إذ تنتقل القيم والعادات من خلال الممارسات اليومية، مثل “الهدهدة”، التي تشكل نوعًا من التربية العاطفية والدينية في ذات الوقت. من خلال هذه الممارسة، يتعلم الطفل الفلسطيني ليس فقط القيم الأخلاقية والدينية، بل يبدأ في إدراك دوره في المجتمع كجزء من كل، مما يجعله عضوًا حيًا في النسيج الاجتماعي الذي يمتد عبر الأجيال.
هذه التربية الشعبية تتم في أغلب الأحيان بشكل غير واعٍ، لكن آثارها تكون واضحة جدًا في تشكيل شخصية الفرد. في هذا السياق، يشير السلحوت إلى أن هذه التربية لا تقتصر على إشاعة القيم الدينية، بل تشمل أيضًا بعض الجوانب التي قد تؤثر في نظرته للمرأة، وتعزز القيم الذكورية السائدة في المجتمعات التقليدية. ورغم التحديات التي قد تطرأ من هذه القيم التقليدية، لا يمكن تجاهل الدور المهم الذي تلعبه التربية الشعبية في تحفيز الانتماء إلى الهوية الفلسطينية.
الحكايات الشعبية: أكثر من مجرد تسلية
الحكايات الشعبية، التي كانت تُحكى في المساء حول النار أو في جلسات العائلة، تحمل في طياتها دروسًا حياتية تساهم في نمو خيال الأطفال وتنمية قدراتهم العقلية. فهي ليست مجرد حكايات للتسلية، بل هي وسائل تعليمية تلعب دورًا حيويًا في نقل الحكمة الفلسطينية إلى الأجيال المقبلة.
كما أن الحكايات الشعبية ليست مجرد خرافات، بل تحوي عناصر من الواقع الاجتماعي والفكري، فتسلط الضوء على القيم الإنسانية، وتحاكي الصراعات الحياتية التي يمر بها الفرد الفلسطيني. وفي ذات السياق، يحلل السلحوت كيف أن هذه الحكايات تتغير مع مرور الزمن وتتكيف مع التحديات المعاصرة، ليصبح التراث الشعبي بمثابة سجل حي للواقع الفلسطيني المتجدد.
المثل الشعبي: حكمة طبقية في كلمات قصيرة
المثل الشعبي الفلسطيني يعكس، في شكله البسيط، الصراعات الطبقية التي تختمر في المجتمع. من خلال أمثالٍ تحمل في طياتها معاني عميقة، يعكس الشعب الفلسطيني آماله وآلامه وتطلعاته. وتعتبر الأمثال وسيلة فعّالة في نقل القيم عبر الأجيال، وتساعد في تشكيل وعي الفرد بالعلاقات الاجتماعية والطبقية، وفي تسليط الضوء على مفاهيم الصراع السياسي والاقتصادي في سياق الاحتلال.
هذا التفاعل بين المثل الشعبي والقيم الاجتماعية يضيف بُعدًا آخر للتراث الشعبي، ويعكس تطور المجتمع الفلسطيني على مدار الزمن، إذ يبقى هذا التراث وسيلة لفهم تاريخ الشعب الفلسطيني، ومن خلاله تُكتب فصولٌ جديدة من الصمود والمقاومة.
خاتمة: التراث الشعبي: الحارس الأبدي للهوية الفلسطينية
في النهاية، يتضح من خلال ما طرحه الأستاذ جميل السلحوت أن التراث الشعبي الفلسطيني لا يُمثل مجرد جزء من الماضي، بل هو عنصر حي لا بد من الحفاظ عليه، وتوثيقه، وتعزيزه. كما أن التربية التي تُمارس من خلاله تشكل الجيل الجديد على قيمٍ تضمن صمود فلسطين وأهله. إن الموروث الشعبي هو ليس فقط سجلًا ثقافيًا، بل هو مقاومة حية ضد محاولات الطمس والتهويد التي يمارسها الاحتلال. فالتربية الشعبية والهوية الفلسطينية هما عمليتان لا ينفصلان عن التراث الشعبي الذي يشكل جوهر هذه الهوية ويعزز من صمودها.