
قراءة في نص “الدرجات” للكاتب نبيل عودة ، بقلم: رانية مرجية
في قصة “الدرجات”، يصطحبنا الكاتب الفلسطيني نبيل عودة في رحلة نفسية وأدبية تُجسد صراع الإنسان مع الحياة والموت، الفقد والوجع، الأمل والإحباط. من خلال أسلوب سردي يعتمد على لغة حوار داخلي ثري، يعكس عودة فكرته العميقة عن الزمن، والموت، والعلاقات الإنسانية في إطار تجربة فلسطينية جماعية تحمل كل طبقات الألم، الترقب، والمقاومة.
الدرج كرمزية متجددة:
يبدأ الكاتب بترسيخ فكرة أن الدرج ليس مجرد سلسلة من السلالم المادية، بل هو رمز قوي للارتقاء والهبوط في حياة الإنسان. يتسلق بطل النص الدرجات، ويكاد يلامس كل درجة وكأنها لحظة من لحظات عمره، يقترب فيها أكثر من الفقد، الموت، والذكريات المؤلمة التي لا تفارق الروح. هذا “السلم” هو ليس مجرد خطوة للعلو أو النزول، بل هو مجاز يرتقي بنا من الألم إلى التأمل، ومن الصمت إلى الصراع الداخلي مع الذات.
مع كل خطوة، تنكشف معاناة الشخصية، تتراكم فوق جسدها مثقلًا بالذكريات والأحمال النفسية، لكنها لا تملك سوى المضي قدمًا. وهذا الصعود المحسوس هو تأكيد على استمرار الحياة، رغم قسوتها، ورغم الحزن الذي يطوق القلب.
الشخصية المركزية:
الشخصية التي تقودنا عبر الدرجات هي امرأة مسنّة، ترمز إلى جيل عانى، وعلى الرغم من تقدمها في السن، يبقى في قلبها شيء من الشجاعة والإصرار. لكن الوجع الذي يحمله جسدها يشير إلى التدهور الزمني، كأن كل خطوة على الدرج هي خطوة نحو النهاية المحتومة، لكنها رغم ذلك تتمسك بالأمل، وإن كان ضئيلا. تكشف هذه الشخصية عن التباين بين الأجيال، فبينما تذكر “أيام زمان” و”الزمن الجميل”، هناك قسوة في كلامها عن الحاضر، وعن الأجيال الجديدة التي لا تعرف قيمة ما كان.
الشخصية تتسلق الدرجات بثقل، وكأن كل خطوة تتطلب منها مقاومة نفسية وبدنية. لكن، لا شيء في الحياة يأتي بسهولة، خصوصًا عندما تحاصرك التحديات الاجتماعية والصحية والوجودية.
الصراع بين الأجيال:
أحد المواضيع الرئيسية في النص هو الصراع بين الأجيال المختلفة، حيث نجد حوارًا داخليًا بين الماضي والحاضر. التباين بين الشاب الذي لا يعرف معاناة الأجداد، والشيخوخة التي تتلمس فقدان القوة مع مرور الوقت، يظهر بوضوح في الحوار الداخلي للمرأة. أزمة الأجيال لا تكمن فقط في الفهم المختلف للواقع، بل أيضًا في الشعور بالخذلان، بالتحول الاجتماعي الذي جعل “الخير يذهب”، وأصبح “الزمن غير الزمن”. هذا يعكس وضع الفلسطيني المعاصر الذي يرى تغيرات مفاجئة في المجتمع، وتبدلات قاسية في القيم والمفاهيم التي كانت أساسيات الحياة اليومية.
الوجع الفلسفي:
يعتبر النص بمثابة محاولة فلسفية لتعميق فهمنا للموت والحياة في ظل الظروف التي يعيشها الفلسطيني، فلا يقتصر النص على كونه مجرد حكاية عن الألم، بل هو إعلان عن الوجود المعذب. يبدأ السرد بلغة مملوءة بالمرارة، حيث تردد الشخصية بصوت داخلي كلماته: “يا عزرائيل”، و”الدنيا ما عاد فيها خير”، في إشارة إلى شعورها بالخذلان التام. هذه الكلمات تطرح على القارئ تساؤلات غير مباشرة حول معنى الموت، وهل هو حقًا “مشيئة الله”، أم أنه مجرد قسوة الظروف والحروب التي دفعت الناس إلى هذه الحافة المظلمة؟
السخرية السوداء:
يتميز النص أيضًا بوجود سخرية لاذعة تعكس مرارة الحياة، إذ أن الشخصية تُعبّر عن شعور مشترك لدى الفلسطينيين في أماكن الشتات والمنافي: السخرية من الموت والواقع، ومن التغيير الذي طال كل شيء. في وصفه للزمن، يذكر الكاتب أن الأيام “مرّت على الناس كما لو كانت عدوى”؛ وهي لغة ساخرة تمامًا، لكنها تعكس ألمًا مُضمرًا لا يُقال مباشرة. السخرية هي دفاع النفس عن آلامها، فهي طريقة للبقاء على قيد الحياة وسط فوضى العالم.
الدور الرمزي للموت:
يظل الموت حاضرًا في النص كأحد العناصر الجوهرية التي تهيمن على حياة الإنسان الفلسطيني. لكنه ليس حاضرًا فقط باعتباره نهاية، بل هو جزء من الحياة نفسها، والتفكير في الموت هنا لا يعني إنهاء للحياة، بل هو بمثابة تطهر دائم للروح الفلسطينية، التي لا تملك في أوقات كثيرة سوى الاستسلام لقدرها. ثم يأتي الحديث عن “عزرائيل” كقوة لا تَرحم، فتضاف البُعد الميتافيزيقي للنص، ويُطرح سؤال حول إرادة الإنسان أمام هذا الكائن الجامد الذي لا يميز بين حياة أو أخرى.
اللغة والحوار الداخلي:
أما بالنسبة للغة التي يستخدمها الكاتب، فهي مزيج من اللغة البسيطة والمباشرة مع الرمز والاسقاطات الفلسفية التي تُعبّر عن عمق التجربة الإنسانية. تداخل الحوار الداخلي مع الواقع الخارجي للبيئة الفلسطينية، يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش في زمنين متوازيين: الماضي الذي لا يُمحى من الذاكرة، والحاضر الذي يُعاني من التحولات القاسية.
في هذا التداخل بين الحضور الغائب للماضي والحاضر الممزق، ينجح نبيل عودة في خلق نص متشابك يعكس حالة الفلسطيني الذي يعيش الحاضر بذاكرة الماضي، دون أن يتخلى عنه.
الخلاصة:
نص “الدرجات” هو نص متعدد الأبعاد، ينطلق من أرضية فلسطينية واقعية، لكنه يغوص في أعماق النفس البشرية في كل ما تحمله من مشاعر الألم، السخرية، والتأمل في الحياة والموت. إنه نص يبحث في معاناة الإنسان في ظروف صعبة ويُبقي القارئ في حالة من التساؤل المستمر حول ماهية العيش والموت.
من خلال هذه القصة، ينجح نبيل عودة في خلق صورة أدبية صادقة عن الصراع الداخلي الذي يعكسه الواقع الفلسطيني، ويحاكي قضية الإنسان في كل مكان وزمان، دون التفريط في التفاصيل التي تجعل النص مرآة حقيقية لمجتمع يعاني ولا يزال