5:00 مساءً / 9 يوليو، 2025
آخر الاخبار

الرفاهية المُعلّبة والراتب المجتزأ ، قراءة نقدية في تزييف النيوليبرالية لكرامة الإنسان ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

الرفاهية المُعلّبة والراتب المجتزأ: قراءة نقدية في تزييف النيوليبرالية لكرامة الإنسان ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


في ظل الهيمنة المتصاعدة للنظام النيوليبرالي (Neoliberal Order)، لم تعد المفاهيم تُطرح كأدوات معرفية محايدة، بل تحوّلت إلى وسائط إيديولوجية مشحونة تُستخدم لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، وتوجيه الإدراك العام في اتجاه يتماهى، على نحو خفي أو مباشر، مع منطق السوق ومصالح رأس المال العالمي (Adams et al., 2019)، ويُعدّ مفهوم “الرفاه” (Wellbeing) من أبرز هذه المفاهيم التي أُعيد تدويرها داخل المنظومة النيوليبرالية؛ إذ بات يُقدَّم كغاية تنموية عليا وشعار تقدّمي ظاهر، في الوقت الذي يُفرّغ فيه تدريجياً من مضامينه الحقوقية والاجتماعية العميقة، ليُعاد صياغته بما يخدم منطق التكيّف لا العدالة، والرضا الفردي لا الإنصاف البنيوي (Spirits of Neoliberalism, 2014).


لم يعد الرفاه في هذا السياق يُعبّر عن العدالة أو ضمان حياة كريمة للجميع، بل أُعيد تعريفه ليعني قدرة الفرد على “إدارة حياته” وسط اللامساواة، وتحقيق “توازن نفسي” رغم القهر المادي. وهكذا يتحول الرفاه من كونه حقاً جماعياً يرتبط بإعادة توزيع الثروة، إلى مسؤولية فردية تُقاس بمؤشرات شعورية مثل الرضا الذاتي أو العافية الذهنية التي يمكن تعزيزها من خلال تدريبات وتمارين ذهنية لا تمس البنية السياسية أو الاقتصادية (Orgad & Gill, 2019).


في هذا السياق، تُعاد صياغة موقع الراتب ضمن البنية الاجتماعية لا بوصفه حقاً مضموناً ومستقراً، بل كمورد مشروط خاضع لمنطق الندرة والتقشف. إذ لم يعد يُنظر إليه كجزء من عقد اجتماعي متين بين الدولة والمواطن، بل كمعونة ظرفية قابلة للتأجيل أو الاجتزاء، تحت ذرائع متكررة مثل الأزمات المالية، أو حالات الطوارئ، أو ما يُسمى بـ “الاستدامة المالية (International Journal of Health Services, 2022). وبهذا، يتحول الراتب من كونه تجسيداً للكرامة والعمل المُعترف به، إلى أداة للبقاء البيولوجي المحض، تلبّي الحد الأدنى من الحاجات دون أن تحقّق الاطمئنان أو العدالة.


وتوازياً مع هذا التحوّل، يُعاد توجيه الخطاب العام والمؤسساتي ليُكرّس منطق الامتنان بدل المطالبة، والتقبّل بدل المساءلة. يُطلب من الموظف أن يُظهر تفهّماً لتأخّر الراتب، أو يقبل تسلّمه منقوصاً دون اعتراض، بل أن يمارس نوعاً من الصمت الأخلاقي حيال غيابه، وكأن الحديث عن الراتب صار فعلاً نرجسياً أو غير وطني في ظل الأزمة. وبهذا المعنى، يُخضع الحقّ الاقتصادي لمنطق الطاعة الرمزية، ويُعاد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على قاعدة الخضوع المؤدلج لا المشاركة المسؤولة.


المفارقة أن المؤسسات التي تُروّج للرفاه كغاية مركزية، هي ذاتها التي تقود سياسات تفكيك الدولة، وتقليص النفقات العامة، وتحويل القطاعات الاجتماعية إلى سلع. وبين هذا الخطاب الناعم وواقع التقشف، يتعرض الموظف، ولا سيما في السياقات العربية والفلسطينية، إلى تآكل في المعنى الوجودي لوظيفته، وفي شعوره بالأمان، بل وحتى بانتمائه.


لكن الأخطر من كل ذلك أن النيوليبرالية لا تُنكر المعاناة، بل تُتقن فنّ تأويلها وإعادة تشكيلها وفق منطق رمزي يُفرغها من مضمونها البنيوي والسياسي. فالفقر، في خطابها، لا يُعزى إلى اختلالات في توزيع السلطة أو الثروة، ولا إلى تغوّل رأس المال على الوظيفة الاجتماعية للدولة، بل يُختزل في فشل فردي أو نقص في “المهارات الحياتية (Adams et al., 2019). وتُقدَّم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما تلك الناتجة عن انسحاب الدولة من مسؤولياتها، بوصفها محطات “تحفيزية” لصقل “المرونة النفسية” ورفع القدرة الذاتية على التكيّف (Orgad & Gill, 2019).


أما غياب الراتب المنتظم أو استقراره، فلا يُفهم كمؤشر واضح على تعسف السياسات أو انكشاف العقد الاجتماعي، بل يُعاد تأطيره كفرصة لتعزيز الصمود الذاتي والتمكين الشخصي ويُطلب من الأفراد أن يعيدوا قراءة تجربتهم تحت ما يُعرف بـ “إعادة تأطير الأفكار أي أن يُنظروا إلى معاناتهم كمسار للتطور النفسي، لا كصرخة للمساءلة أو المطالبة (International Journal of Health Services, 2022).


بهذا المنطق، تصبح المعاناة رأس مال رمزياً يُستثمر في تنمية الذات، لا في مساءلة السياسات، ويغدو المطلوب من الإنسان المعاصر، لا سيما في السياقات المهمشة، أن يصمد بصمت، وأن يُظهر مرونة نفسية عالية تتلاءم مع العجز العام، لا أن يُقاوم أو يحتجّ أو يُفكّر في بدائل. وهكذا، تُحوّل المأساة إلى فرصة “تنموية”، ويُغلق الباب أمام التحليل البنيوي أو النقد الجماعي، لصالح سردية فردية مفرطة في التكيّف، فقيرة في التغيير.


بهذا الشكل، تُسلّع المعاناة نفسها، وتُحول إلى عبء نفسي فردي، لا إلى قضية حقوقية سياسية. يُطلب من الأفراد أن يتجاوزوا ألمهم لا أن يطالبوا بإصلاح سببه، وأن يتكيفوا مع البؤس لا أن يسائلوا بنيته. تُستخدم أدوات “الرفاه الشخصي” لتخدير الوعي لا لتحريره، وتُصبح برامج الصحة النفسية نوعاً من “الإسعاف الرمزي” الذي يمنع التحول إلى وعي احتجاجي أو نقد جذري (Adams et al., 2019).


هذه الهندسة الرمزية للمفاهيم، تُسهم في إنتاج وعي مُدجّن؛ وعي يُذيب الحق في الرضا، ويستبدل المطالبة بالتأمل، ويستبدل الاحتجاج بإدارة التوتر. بل إن مؤشرات الرفاه العالمية التي تُقاس على أساس الشعور بالرضا والسعادة، تغفل تماماً عن الواقع المعاش في بيئات منهوبة ومضطهدة، مما يخلق فجوة خطيرة بين القياس الخارجي والتجربة الداخلية.


وهكذا، يتحوّل مفهوم “الرفاه” إلى أداة تنميط أيديولوجي تُستخدم لشرعنة الفقر وتطبيع غياب العدالة، بدل أن تكون حافزاً لمقاومتها وتحقيقها، فيما يُقدَّم “الراتب المنصف” كأفق مؤجل لا كحق أصيل يضمن العيش الكريم. في هذا السياق، تتراجع الدولة من كونها طرفاً أخلاقياً في علاقة حقوقية، إلى مجرد مزود خدمات مشروطة يتحرك بمنطق السوق لا بمنطق المسؤولية. وإذا لم تُستعد مفاهيم “الرفاه” و”الراتب” إلى جذرها الأخلاقي والسياسي، فسيبقى الخطاب العام أسير الزيف اللغوي والتجميل الرمزي؛ لأن الرفاه الحقيقي لا يُختزل في شعور فردي بالارتياح، بل يتجلى في عدالة اجتماعية وأمن اقتصادي وضمانات مؤسسية، ولأن الراتب العادل ليس مجرد أداة للبقاء، بل تعبير عن عقد إنساني يحترم الكرامة ويصون المساواة بين الدولة وموظفيها.


في زمن تُشكّل فيه اللغة أداةً ذات تأثير عميق على صياغة الواقع، وتُستخدم المفاهيم أحياناً كمرايا تعكس صورة مشوهة للحقائق، يصبح من الضروري أن يتجاوز الفكر تفكيك الخطاب إلى إعادة بناء وعي نقدي يُمكّن من التمييز بين الظاهر والجوهر. فرفض الظلم لا يعني بالضرورة التمرد العشوائي، بل هو نداء للتأكيد على الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها الكرامة، والعدالة، والاستقرار، والاعتراف المتبادل.


إن استعادة هذه المفاهيم إلى مكانتها الحقيقية ليست دعوة للخصومة، بل منطلق لإعادة التوازن في العلاقة بين الدولة والمواطن، بما يعزز من شرعية الحكم ويفسح المجال لمواطنة فعالة ومسؤولة. فالشرعية اليوم تُقاس بمدى التزام المؤسسات بحقوق الإنسان ووضوح التفاهم في العقد الاجتماعي الذي يجمع بين السلطة والشعب. وفي فضاء التحديات التي تفرضها مفاهيم الرفاه المعلّب والراتب المجتزأ، يُمكن أن تُختبر بعمق القيم السياسية، وشفافية الأداء الحكومي، وعمق الفهم الإنساني.

شاهد أيضاً

مع انتهاء امتحانات الثانوية العامة الشرطة توزع هدايا رمزية على الطالبات في الخليل

مع انتهاء امتحانات الثانوية العامة “التوجيهي” الشرطة توزع هدايا رمزية على الطالبات في الخليل

شفا – في مبادرة مجتمعية تحمل رسالة دعم وتشجيع، قامت شرطة حماية الأسرة والأحداث، اليوم …