12:15 صباحًا / 25 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

عامر عودة وتجديد أفق القصة الفلسطينية: قراءة نقدية في «بداية بلا نهاية» بقلم: رانية مرجية

عامر عودة وتجديد أفق القصة الفلسطينية: قراءة نقدية في «بداية بلا نهاية» بقلم: رانية مرجية

عتبة الكتاب: بداية تتحدى الموت

حين يضع الكاتب الفلسطيني عامر عودة عنوانًا لمجموعته القصصية الجديدة بـ «بداية بلا نهاية»، فهو لا يختار مجرد استعارة لغوية، بل يطلق تحديًا وجوديًا في وجه قانون الأشياء: لكل بداية نهاية. عودة يقلب القاعدة، فيعلن أن بعض البدايات تولد كي تُقيم إلى الأبد، مثل الحب الذي يرفض أن ينطفئ، ومثل الكتابة التي لا تُستنزف، بل تتجدد كلما انفتحت على جرح جديد أو هاجس آخر.

العنوان هنا ليس زينة، بل بوابة. ومنذ الصفحات الأولى يصرّح الكاتب بوضوح: «بدونكِ، سيدتي، لا كتابة…»؛ جملة تصلح أن تكون بيانًا أدبيًا، إذ تعيد اللغة إلى حضن الإلهام، وتنقذها من برود السلعة ومن سطوة الصناعة النصية.

كسر القوالب: حين تتمرد القصة على الخاتمة

قصّة «بداية بلا نهاية» التي تختم المجموعة هي مفتاحها السري. فالحب فيها يُحرم من النهاية، والقصة نفسها تُحرم من قانونها الكلاسيكي: بداية – وسط – نهاية. هنا يتمرد النص على أرسطو وعلى البلاغة المدرسية معًا. وللمرة الأولى، تُحذف النهاية عن قصد، كي يظل النص في حالة فتح دائم. إنها ليست لعبة شكلية، بل رسالة أخلاقية: فليست كل خاتمة صدقًا، وأحيانًا يكون الصدق في الإبقاء على الباب مشرعًا.

القلق اليومي: البطولة لمن لا ينام

في نصوص عودة، ليست البطولة لمن يرفع السيوف، بل لمن يواجه هواجسه. في «رعود وزلازل» يقف أب مذعور أمام أصوات الطبيعة، فيأتيه الخلاص من جملة ابنه البسيطة: «لا تخف يا أبي، الرعد لا يؤذي». الجملة الصغيرة تُنقذ رجلًا من انهيار داخلي.

وفي «زائر ليلي» يتجسد القلق في صورة كائن يجلس على الصدر ويهمس: «كيف تنام وابنك لم يعد بعد؟». هنا تتحول الهواجس إلى شخصيات، وتصبح القصة مختبرًا لتجسيد ما لا يُرى.

هذه القصص القصيرة لا تتكئ على عقدة خارجية أو حدث جلل، بل تستثمر في التفاصيل الخفية، في اللحظة التي يخترع فيها الخوف ألف سيناريو. وهنا تكمن قوة النص: نقل الرعب من الخارج إلى الداخل، من الكارثة الملموسة إلى الكارثة المتخيلة.

نقد المؤسسات: المدرسة، الشرطة، الإعلام

يتجاوز الكاتب فضاء الفرد إلى الفضاء العام، حيث تتكشف أزمات المؤسسات:

في المدرسة: طفل يحل مسائل الجمع ذهنيًا بعبقرية، لكن المعلّمة تُصرّ على الأعمدة واللوح، لتكشف القصة عن الهوة بين ذكاء الفطرة وجمود المناهج.

في مركز الشرطة: قاعة انتظار مكتظة بالمتظلمين، امرأة مهددة بالقتل، رجال محبطون، كاميرات مراقبة عاجزة عن قول الحقيقة. المكان يفضح اهتزاز الثقة بين المواطن وجهاز يُفترض أن يحميه.

في الإذاعة: نقد لاذع لضجيج البثّ المحلي، حيث الأغاني الهابطة والبرامج الفارغة تغطي على العنف والبطالة بلا أي تحليل حقيقي. الإعلام يتحول من منارة إلى ضوضاء، من رسالة إلى ستار دخان.

بهذا يضع عودة إصبعه على جرح الحياة العامة: المؤسسات التي ينبغي أن تمنح الأمان، كثيرًا ما تزرع القلق بدل أن تزيله.

جائحة الهواجس: التاريخ ككابوس جماعي

من أبرز نصوص الكتاب «جائحة الهواجس»، حيث يقتحم التاريخ السرد. الحجر الصحي، المكالمات الهاتفية، الخوف من العدوى، كلها ملامح قريبة في الذاكرة. لكن الكاتب لا يكتفي بالوصف، بل يكشف أن الخوف نفسه صار وباءً، أخطر من الفيروس ذاته.

هذا النص يتناص بذكاء مع رواية العمى لساراماغو، حيث لا يُصيب الوباء الأجساد وحدها، بل يعرّي هشاشة الروح الإنسانية أمام الذعر. هنا تتحول القصة القصيرة إلى مرآة كونية، تُحاور الأدب العالمي من قلب التجربة الفلسطينية.

الشعر والعلم: ثنائية الجمال والصرامة

في لقاء «معلّمة اللغة العربية وأستاذ العلوم» نسمع جملة تختصر المعركة: «الطبيعة تكون أجمل لو لم تمسّها يد إنسان». هنا يتقاطع صوت الشعر الذي يقدس الفطرة مع صوت العلم الذي يبرر التعمير. لا يُحسم الخلاف، بل يظل مفتوحًا كجدلية أزلية: بين الرهافة والدقة، بين العاطفة والمعادلة. عودة يمنح النص طابعًا حواريًا يذكّرنا بأن الأدب ليس محكمة تصدر الأحكام، بل مائدة يُدار فوقها النقاش.

الأسلوب: بساطة تخترق العمق

ما يميّز نصوص هذه المجموعة أنّها مكتوبة بلغة مشهدية، جُمل قصيرة، واضحة، لا تحتاج إلى معجم ولا إلى تكلّف. لكنها رغم بساطتها لا تقع في فخ السطحية، بل تنفذ مباشرة إلى العمق. إنها لغة تصلح للقراءة على مقعد الدراسة كما تصلح للنشر في صحيفة مرموقة، لأنها لغة صادقة، لا تتزيّن بما لا يلزم، ولا تتخفى خلف الأقنعة.

المكانة الأدبية: عامر عودة في المشهد الفلسطيني والعربي

عامر عودة ليس مجرد قاصّ يكتب عن تفاصيل يومه، بل هو صوت ينتمي إلى التيار الفلسطيني الذي يصرّ على أن يجعل من الأدب مساحة مقاومة للغياب. نصوصه ليست صرخات سياسية مباشرة، لكنها مشبعة بالوعي الجمعي: قلق الأب ليس معزولًا عن قلق الوطن، وانكسار الثقة بالمؤسسات ليس سوى صورة مصغّرة لانكسار أوسع مع بنية السلطة، والذاكرة الفردية حين تواجه الجائحة أو الهواجس تصبح مرآة لذاكرة شعب يعيش على حافة التهديد الدائم.

بهذا المعنى، يقف عودة على خط التماس بين الأدب اليومي والأدب المقاوم. إنّه يكتب عن الرعد، عن الطفل، عن الانتظار، عن مكالمة هاتفية، لكنه في العمق يكتب عن معنى البقاء ذاته في بيئة مشبعة بالخوف والعطب. لغته البسيطة تجعله قريبًا من القارئ العام، بينما عمق إشاراته الفكرية وتناصاته الثقافية (من ابن سهل الأندلسي إلى ساراماغو) تجعله حاضرًا في النقاش النقدي الأوسع.

من هنا يمكن القول إن «بداية بلا نهاية» تضع عامر عودة في موقع متقدّم بين كتّاب القصة الفلسطينية المعاصرة الذين اختاروا أن يُزاوجوا بين التجربة الحياتية الحميمة والوعي النقدي للمؤسسات والواقع الجماعي. وهو موقع يرشحه لأن يُقرأ لا فقط داخل حدود فلسطين، بل في الفضاء العربي الأوسع، حيث يحتاج الأدب اليوم إلى أصوات تكشف أنّ القصة القصيرة قادرة على أن تكون مرآة إنسانية عابرة للحدود، دون أن تفقد جذورها المحلية.

خلاصة: الكتابة كجرح مفتوح

«بداية بلا نهاية» ليس كتابًا يُغلق ملفاته، بل كتاب يصرّ على ترك الجرح مفتوحًا، لأن في الجرح حياة. هو أدب يضع الإصبع على الألم الفردي والجماعي، لكنه لا يفعل ذلك لليأس، بل لإضاءة الطريق.

إنه أدب يرفض أن يكون خاتمة، ويصر أن يبقى بداية، بداية تُكتب كل يوم، مع كل خوف جديد، وكل حلم جديد، وكل سؤال لم يُجب بعد. بهذا يثبت عامر عودة أنّ القصة القصيرة ليست حكاية تُروى ثم تُطوى، بل هي شكل حياة، وموقف من الوجود

شاهد أيضاً

لجنة صياغة الدستور للانتقال من السلطة إلى الدولة تعقد اجتماعها الأول

لجنة صياغة الدستور للانتقال من السلطة إلى الدولة تعقد اجتماعها الأول

شفا – عقدت لجنة صياغة الدستور للانتقال من السلطة إلى الدولة، اجتماعها الأول برئاسة رئيس …