
الجبهة الوطنية الفلسطينية .. دروس الماضي ورهانات الحاضر، بقلم : مروان إميل طوباسي
برحيل القائد الوطني عبد الجواد صالح ، تعود إلى الذاكرة تجربة وحدوية فريدة تركت أثراً عميقا في مسيرة شعبنا ، كان له وللعديد من الوطنيين المخلصين دوراً في تأسيسها قبل ان يشن الأحتلال حملات الأعتقال والابعاد وحتى محاولات الأغتيال لعدد من قيادتها وكادرها . انها تجربة الجبهة الوطنية وتبعاتها في خضم سنوات السبعينات والثمانينات القاسية التي نشأت تحت وطأة بشاعة الأحتلال وزنازين التعذيب وبدعة الاعتقال الاداري . لقد وُلدت فكرة الجبهة الوطنية الفلسطينية عام ١٩٧٣ داخل الأرض المحتلة بعد ارهاصات عدد من التجارب الوحدوية السابقة وتحديدا في قطاع غزة . لم تكن الجبهة الوطنية مجرد إطار تنظيمي عابر ، بل كانت عنواناً سياسياً كفاحياً طوعياً موحداً لشعبنا في الداخل ، وتشكيلاً فاعلاً يعبر عن حضور منظمة التحرير الفلسطينية على أرض الوطن دون مصالح ترتبط بمراكز نفوذ او شكل من السلطة ونشؤ المصالح حينها . لقد وحّدت هذه الجبهة صفوف الوطنيين الفلسطينيين من مختلف التيارات السياسية والفكرية من الحركة الوطنية بانتماء صادق ، ووفرت أداة للتنظيم الشعبي المقاوم ، مكّنت شعبنا من إسماع صوته السياسي وإفشال محاولات الأحتلال خلق بدائل عميلة أو روابط قروية هزيلة او تمرير مشروع الإدارة المدنية في حينه .
لقد قادت الجبهة الوطنية نشاطاً سياسياً جماهيرياً مميزاً ، والتي مثّلت أول تعبير جماعي مباشر من الداخل عن الألتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية وبرناجها السياسي ودفاعها عن الارض في وجه الاستيطان تحت شعار الأرض هي الهوية . هذا النشاط الشعبي المتجذر في الأرض المحتلة ، كان السبب الرئيسي الذي دفع قمة الرباط عام ١٩٧٤ للأعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني . كما كان له ألأثر البالغ في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة منح منظمة التحرير مكانتها الدولية ، وهو ما تجسد في كلمة الزعيم الراحل ياسر عرفات الشهيرة من على منبر الأمم المتحدة في العام نفسه .
ولم يقف تأثير الجبهة الوطنية عند البعد العربي والدولي ، بل انعكس مباشرة على المشهد الداخلي الفلسطيني ، حيث شكّلت قاعدة صلبة للعمل السياسي الوطني وحتى العسكري في فترة من نشأتها وفق حق شعبنا بمقاومة الأحتلال سندا للنواثيق الدولية ، وبالتكامل مع عمل قطاعات ثورتنا بالشتات وصمودها في وجه محاولات عدة لتصفيتها ولأستئصالها .
يكفي أن نُذكر أن الكتل الوطنية التي انبثقت عن هذه الجبهة تمكنت من تحقيق فوز كاسح في انتخابات المجالس البلدية عام ١٩٧٦ ، في مواجهة مرشحي دُمى الأحتلال وأدوات روابط القرى . بذلك أسقطت التجربة الشعبية الوطنية الموحدة مشروع “روابط القرى” ومختلف محاولات الأحتلال لصناعة قيادة بديلة عن منظمة التحرير .
اليوم ، ونحن في عام ٢٠٢٥ ، تبدو هذه التجربة التاريخية أكثر إلهاماً من أي وقت مضى . فالوضع الفلسطيني الراهن يتسم بتشرذم داخلي خطير وأزمة تحيط بنظام ما السياسي ، وانقسامات سياسية وحتى تنظيمية أعاقت قدرة شعبنا على بناء استراتيجية وطنية تحررية جامعة ، وفتح المجال واسعاً أمام الأحتلال ليعمق إستعماره الأستيطاني ويواصل جرائمه من إبادة وتطهير عرقي وتهجير في محاولاته تنفيذ مشروعه في التوسع نحو اقامة مشروع اسرائيل الكبرى .
في المقابل ، يتطلع شعبنا إلى أفق جديد يعيد له وحدته الداخلية ويمنحه أدوات كفاحية وسياسية قادرة على فرض الحضور الفلسطيني على الساحة الإقليمية والدولية كما حدث في تلك الفترة من سبعينات وثمانينات القرن الماضي حينما تشكلت ايضا لجنة التوجيه الوطني ومن ثم القيادة الوطنية الموحدة للأنتفاضة الكبرى التي إخترقت عقول وضمائر شعوب العالم وأدت الى اعلان وثيقة الاستقلال عام ١٩٨٨ وبدء سلسلة الاعترافات العالمية بالدولة وصولا الى منح فلسطين مكانة دولة مراقب عام ٢٠١٢ بالجمعية العامة للأمم المتحدة .
إن الدرس الأبرز من تجربة الجبهة الوطنية هو أن قوة الشرعية الفلسطينية لا تُصنع بقرارات فوقية أو تفاهمات خارجية ، بل تُبنى من الأرض ومن القاعدة وسط أبناء شعبنا ، من خلال تجميع إرادة الشعب وصوته في أطر موحدة تعكس وحدة الكفاح وتُسقط محاولات الأحتلال للتفريق والأختراق . وهذا بالضبط ما نحتاجه اليوم ، العودة إلى صيغة وطنية جامعة تعيد بناء الثقة بالبيت الداخلي .
وعلى ضوء ذلك ، فإن الطريق الواقعي والمطلوب اليوم يتمثل في الذهاب نحو انتخاب برلمان دولة فلسطين بديلاً عن المجلس التشريعي الذي افرزته اتفاقيات أوسلو ، باعتباره الأداة الدستورية والتشريعية والرقابية التي توحد الإرادة الشعبية وتعيد بناء الشرعية الوطنية على أساس ديمقراطي جامع وتكرس مبدأ ان الشعب هو مصدر السلطات . فكما أن الجبهة الوطنية بصيغتها الشعبية والسياسية أمنت الشرعية لمنظمة التحرير في السبعينات وكذلك القيادة الوطنية الموحدة للأنتفاضة ، فإن برلمان دولة فلسطين يمكن أن يشكل اليوم العنوان الشرعي لوحدانية تمثيل منظمة التحرير ومحرك أستنهاضها الذي يفرض حضور الدولة الفلسطينية حتى تحت الأحتلال في الساحة الدولية ويجعل من الاعترافات بها مسألة ذات جدوى تتطلب إنهاء أحتلال أراضيها اولاً ، ويُفشل في الوقت ذاته مشاريع الأحتلال الرامية لتصفية قضيتنا أو فرض بدائل مشوهة تدفع الى فكرة التعايش مع الأحتلال تحت حجج ومبررات واهية غير ذات جوهر وطني تحرري .
إن إعادة الإعتبار لهذا الخيار تعني إعادة وصل الداخل بالشتات ، وتوحيد كل الطاقات في إطار سياسي جامع ، يمهد لإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير على أسس ديمقراطية وكفاحية باعتبارها عنوان التحرر الوطني ، ويشكل قاعدة صلبة لبرنامج مقاومة وطنية شاملة ضد الأحتلال والأستيطان . فالتاريخ يقول لنا بوضوح ، حين توحد شعبنا في إطار سياسي كفاحي جامع ، إستطاع أن يغير موازين القوى ويكسر محاولات الإلغاء والتصفية . واليوم ، ليست هناك حاجة إلى اختراع العجلة من جديد ، بل إلى استلهام تجربة الجبهة الوطنية الفلسطينية والقيادة الوطنية الموحدة للأنتفاضة التي كرست شرعية الكفاح الوطني الشعبي العريض ومصداقيته امام العالم ، كما هو واقع اليوم من اتساع التضامن الدولي الشعبي مع شعبنا في كل شوارع هذا الكون ، وتحديثها والبناء عليها بما يلائم ظروف شعبنا وتحدياته الراهنة .
إن شعبنا الذي صنع في فترات ما قبل اتفاقيات أوسلو وملحقاتها التي يتنكر الأحتلال لها اليوم ، إنجازات تاريخية بوحدته ونضاله الشعبي الواسع ، قادر اليوم أيضاً أن يفرض معادلة جديدة عبر صناديق الاقتراع لبرلمان دولته حتى تحت الأحتلال كشكل من المقاومة وتجسيد الصمود ، ليقول للعالم ، نحن هنا باقون ، موحدون ، نملك قرارنا الوطني المستقل ، ونرسم مستقبلنا . وهذه هي الخطوة الأولى على طريق الحرية والأستقلال الوطني الديمقراطي ، حتى يكون بَعدها الحديث حول مبدأ حل الدولتين ذو معنى سياسي يتفق مع جوهر معادلته دون اجحاف بحقوق شعبنا السياسية والقانونية غير القابلة للتصرف .