
لماذا يخرج الغرب بالملايين من أجل غزة بينما العرب صامتون؟ بقلم : محمد التاج
المشهد اليوم يثير الدهشة والمرارة معا: في العواصم الغربية البعيدة آلاف الكيلومترات عن غزة، تخرج الملايين إلى الشوارع مطالبة بوقف الإبادة والتجويع، فيما يقابل ذلك صمت ثقيل في المدن العربية والإسلامية، حيث لا ترى سوى مظاهرات محدودة، محاصرة أو مقموعة قبل أن تبدأ. هذا التناقض ليس نتاج اختلاف في الدين أو اللغة أو القرب الجغرافي، بل هو انعكاس لبنية سياسية واجتماعية صنعت بعناية لتشل الأمة العربية وتمنعها من الحركة.
في الغرب، هناك هوامش حرية تسمح للمجتمع المدني بالتعبئة والتنظيم. النقابات، الجامعات، الجمعيات، والجاليات النشطة تحولت إلى أدوات ضغط قادرة على تحريك الناس وإنزالهم إلى الشوارع. الإعلام هناك يعرض صور المجازر لحظة بلحظة، فيستفز الضمير الإنساني ويدفع الناس للتحرك. المواطن الغربي، مهما كانت أولوياته، يشعر أن صوته يمكن أن يحدث فرقا، وأن ضغطه قد يجبر حكومته على تغيير موقفها.
أما في العالم العربي، فالوضع مختلف جذريا. المواطن محاصر بأنظمة استبدادية ترى في أي تجمع شعبي تهديدا مباشرا لعروشها. المظاهرة بالنسبة لتلك الأنظمة ليست مجرد تعبير عن التضامن، بل احتمال لانفجار داخلي قد يتجاوز غزة ليصل إلى قضايا الفساد والظلم في الداخل. لذلك يقمع الناس قبل أن يرفعوا لافتة واحدة. القمع ليس وحده ما يمنع النزول، فسنوات من التجويع الممنهج أنهكت الشعوب، وجعلتها منشغلة بصراع يومي من أجل لقمة العيش، لا تملك ترف التفكير بخطوة أبعد من حدود البيت.
المجتمع العربي كذلك جرد من أدواته التنظيمية. الأحزاب الحقيقية ألغيت أو دجنت، النقابات وضعت تحت سيطرة الحكومات، الجمعيات الأهلية حوصرت بالرقابة والتمويل المشروط. لم يبق للشعوب سوى أفراد متفرقين لا يملكون القدرة على التحرك المنظم. ومع هذا التفريغ المتعمد، جاء الإعلام الرسمي ليكمل المهمة، فحجب صورة غزة الحقيقية، أو شوهها، أو قدمها كقضية بعيدة لا تعني المواطن العربي في حياته اليومية.
الأخطر من ذلك أن آلة الدعاية المضادة نجحت في زرع الشك واليأس في الوعي الجمعي. البعض صار يرى أن ما يحدث في غزة مجرد “لعبة سياسية”، والبعض الآخر اقتنع أن خروجه لن يغير شيئا. وهكذا تحولت الشعوب إلى جمهور صامت يتابع المأساة وكأنها فيلم بعيد، بينما الحقيقة أنها قضية مصيرية تهدد حاضرهم ومستقبلهم.
هذا كله لا يعني أن النخوة ماتت أو أن الجينات العربية أصابها خلل كما قد يتخيل البعض. الشعوب التي صنعت الثورات وانتفضت مرارا لم تفقد روحها، لكنها محاصرة ومكبلة داخل منظومة صممت خصيصا لتمنع أي فعل جماعي. ولو فتح لها هامش حرية بسيط، لكانت شوارع العواصم العربية أضعاف شوارع الغرب في تضامنها مع غزة.
المفارقة أن غزة نفسها، الصغيرة المحاصرة، تثبت أن الكرامة لم تدفن بعد. هناك شعب يقاتل ويصمد بأقل الإمكانيات، ويقاوم أعنف آلة عسكرية في العالم. هذا وحده دليل على أن العجز ليس قدرا، وأن الأمة قادرة على استعادة صوتها متى كسرت القيود التي أوصلتها إلى هذا الصمت الموجع.