
صوغ التربية الفلسطينية من الخطية إلى المركبة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
تتشابك المعارف وتنهار الثوابت التي ظلت تشكل الإطار المعرفي والاجتماعي للإنسان، فتفقد الأسس التي ارتكز عليها الفكر التقليدي. لم تعد طرق توجيه التعلم وبناء الخبرات التعليمية بطريقة منهجية لتطوير الإنسان معرفياً ووجدانياً وأخلاقياً، وتمكينه من التفكير النقدي وصياغة وعيه الخاص) البيداغوجيا) التقليدية قادرة على احتواء الإنسان أو مجاراة التحولات المعرفية والاجتماعية المعاصرة.
لم تعد العملية التعليمية مجرد تمرير محتوى جامد، بل صارت فضاءً لإنتاج المعنى، حيث تتقاطع الأفكار وتتصارع السرديات، ويكتسب المتعلم القدرة على استنطاق الواقع وصياغة رؤاه الخاصة. في فلسطين، يتحول هذا الفضاء إلى شبكة وجودية متوترة، ينسج فيها كل درس وكل فعل تربوي داخل متاهة من الروايات المتنافسة ومحاولات الهيمنة الرمزية على الفكر والهوية، حتى يتشظّى تحت وطأة الانقسامات المعرفية والسياسية.
النموذج البيداغوجي القديم افترض المعرفة كسلعة ثابتة، والمعلم كسلطة عليا، والمتعلم وعاءً فارغاً. في عالم تتسارع فيه المعلومات وتتقاطع فيه التكنولوجيا مع الخبرة الإنسانية، يصبح هذا النموذج محدود الفاعلية، إذ يُنتج خضوعاً تلقائياً ويقوّض القدرة على التفكير النقدي. هنا تنبع الحاجة إلى بيداغوجيا فلسطينية مقاومة، تربط المعرفة بالهوية والثقافة والسياسة المحلية، وتحول العملية التعليمية إلى حقل لصياغة الوعي المستقل، حيث يصبح التعليم ممارسة للحرية، والفكر أداة للتمرد على القوالب المعرفية الجامدة.
زمن ما بعد المعرفة يفرض إعادة النظر في جوهر التعلم، ورؤية الإنسان ككائن متكامل الأبعاد (جسد – عقل – عاطفة – وعي أخلاقي)، وهو ما يعرف بالجسملوجيا، حيث لا يمكن فصل البُعد النفسي أو الوجداني عن العملية التعليمية. في هذا الإطار، تصبح التربية مشروعاً لإشعال الفكر النقدي وصياغة معنى شخصي وجماعي، وتمكين المتعلم من مواجهة الاستلاب المعرفي والتكيف مع التحولات الرقمية والاجتماعية والثقافية المتسارعة. وتبرز هنا قيمة التكنولوجيا ليس كمجرد وسيلة، بل كأداة لإثراء التجربة، وتوسيع آفاق المتعلم، وربط الفكر بالممارسة الواقعية، لتصبح المعرفة حيّة ومتشابكة مع الحياة اليومية.
في استمرارية لما سبق، يكتسب تنظيم التعلم وفن التدريس (الديداكتيك) أبعاداً أعمق ودقة أكبر. فهو ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل فن إدارة التجربة التعليمية التفاعلية التي تمكّن المتعلم من استكشاف الروابط الخفية بين الأفكار، واختبار أثرها على الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، وممارسة النقد الذاتي والجماعي. أما الكفايات، فهي تتجاوز حدود الأداء المهاري التقليدي لتصبح أدوات تمكين لإنتاج الفعل النقدي والإبداعي، متشابكة مع السياق الاجتماعي والثقافي والتكنولوجي المعاصر. اكتساب الكفايات لا يقتصر على القدرة التنفيذية، بل يعني تحويل المعرفة إلى فعل واعٍ وفاعل، يواجه التحديات اليومية ويصوغ حلولاً مبتكرة تتجاوز القيود التقليدية.
تعزز البيداغوجيا الفلسطينية مفهوم السردية النقدية، إذ يصبح تعلم السرد فعلاً سياسياً تحررياً يمكّن المتعلم من ربط المعرفة بالتجربة الواقعية، وصياغة تصور مستمر لعلاقته بالعالم والمجتمع، وتنمية إحساس بالمسؤولية تجاه الهوية الوطنية. تتحول العملية التعليمية إلى أفق لبناء الوعي والهوية الفلسطينية، حيث ترتبط المعرفة بالمجتمع والتاريخ والفعل السياسي، وتصبح المدرسة أو الفضاء التعليمي ورشة تشكيل الوعي، لا مجرد حاضنة للمعرفة المجردة، وسط عالم تتفتت فيه اليقينيات وتنهار الثوابت.
أحد التحديات الجوهرية هو كسر المنحى الخطي للمعرفة الذي لم يعد صالحاً للتعامل مع الواقع المركب. التعليم التقليدي يعيد إنتاج خضوع معرفي، بينما النموذج الجديد يشجع التفكير المتشابك والمتعدد، ويمنح المتعلم القدرة على إدراك الترابط بين المعرفة والتجربة، بين الفرد والمجتمع، وبين الماضي والحاضر. يصبح التعلم ممارسة للحرية، والفكر أداة لصونها، والوعي سلاحاً للبقاء، بحيث لا يقتصر دوره على اكتساب الحقائق، بل يمتد لإنتاج رؤية نقدية شاملة، وسط واقع معرفي يتفكك ويتشظّى.
التربية الفلسطينية بهذا البعد ليست مجرد تدريب على مهارات تقنية، بل مشروع شامل لإنتاج الذات وفهم العالم. الفضاء التعليمي يصبح حقل إنتاج المعنى، حيث المعلم مرشد للفكر، المناهج أدوات، والتعليم فعل سيادي يمكّن الطلبة من صياغة واقعهم بدل تقبّل ما يُفرض عليهم. التكنولوجيا والثقافة الرقمية تصبح أدوات للتفكير والتجربة العملية، لا مجرد وسائل لنقل المعلومات، مما يتيح للمتعلم الفرصة لتطوير الوعي الذاتي والاجتماعي، وسط عالم تتفتت فيه الهويات وتتشظّى القيم التقليدية.
البيداغوجيا الخطية انتهت لأنها لم تعد قادرة على احتواء فلسطين أو العالم المعاصر. البيداغوجيا الجديدة تمثل أفقاً للفكر والفعل الحر، تمنح الإنسان القدرة على مجابهة الاستلاب المعرفي، واستعادة السيطرة على المعرفة، وبناء الذات الفلسطينية المعاصرة التي تظل موجودة، فاعلة، وصامدة. في زمن ما بعد المعرفة، لا يكفي تعليم الفلسطيني “كيف ينجح”، بل يجب تعليمه كيف يظل حاضراً وفاعلاً وواعياً في عالم تنهار فيه المعاني وتتفتت فيه اليقينيات، ويتشظّى فيه الإطار التقليدي للمعرفة.
هكذا تصبح البيداغوجيا الفلسطينية تربية تعيد إنتاج الإنسان بدل إعادة إنتاج الخطية، وتمنحه القدرة على مواجهة أي محاولة لإلغاء الوعي أو طمس الهوية، بتفكير نقدي، وفعل متحرر، وسردية حيّة، متكاملة مع التحولات الرقمية والثقافية والاجتماعية، والبعد النفسي والوجداني للمتعلم.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .