
الساخر الذي فضح المأساة ، نبيل عودة قلمٌ من نار ومرآة من ضمير ، بقلم: رانية مرجية
في زمن يُغتال فيه الضحك ويُجلد فيه العقل، يخرج من بين غبار الهزائم صوتٌ جريء، ساخر، لاذع، لكنه إنساني حتى العظم، اسمه نبيل عودة. كاتب فلسطيني حمل همّ قضيته لا على لافتةٍ، بل على ورقة، على مفردةٍ تضحكك حتى البكاء، وتبكيك حتى الضحك. رجلٌ آمن بالكلمة، لا كترفٍ بل كسلاح، لا كبلاغةٍ بل كفضيحةٍ أخلاقية للزمن الرديء.
من الناصرة، خرج نبيل عودة كمن يحمل المدينة كلها في ذاكرته، بحجارتها وشوارعها وضجيج أهلها وصمتهم الطويل. لم تكن الناصرة مجرد مكانٍ جغرافيّ بالنسبة له، بل مختبرًا للحياة، مرآةً للانقسام الطبقي، للتشوهات السياسية، ولحكايا الناس الذين لم تلتقطهم الكاميرات ولا خلدتهم المنابر.
كاتب الطبقة المسحوقة… والساخر بوجع
نبيل عودة ليس فقط كاتبًا، بل شاهد عصر. كتب عن الشيوعيين حين صمت الجميع، وانتقد الفاسدين داخل الحركة الوطنية حين تجنبهم المصفقون. لم يهادن ولم يساوم. كان يكتب كما يتنفس، وكأن كل نصٍّ يكتبه آخر ما يملك. وإن كانت السخرية هي ملاذه الظاهري، فإن الحزن هو نبض نصوصه الحقيقي. فمن يضحك كثيرًا في كتاباته، هو غالبًا من بكى كثيرًا خارجها.
في قصصه، لا تجد بطلاً خارقًا، بل رجلاً عاديًا، يخرج إلى عمله بلا رغبة، يعود إلى بيته بلا أمل، يحلم بحياةٍ أفضل ويصحو على القهر ذاته. لكنه يضحك، يضحك كي لا يموت، يضحك كي لا يصرخ. وهنا تكمن عبقرية نبيل عودة: في تحويل القهر إلى ضحكة، والضحكة إلى موقف.
الناقد الذي خذلته الأوساط الرسمية ورفعه القرّاء
رغم غزارة إنتاجه وتنوعه بين القصة القصيرة والرواية والمقالة النقدية، لم تُنصفه الأوساط الثقافية الرسمية. تجاهلوه لأنه لم يجامل، وأسقطوه من الجوائز لأنه لم ينضم إلى موكب التصفيق. لكنه لم يتوقف. ظل يكتب وينشر، في الصحف والمواقع العربية، بصبر النمل ومثابرة الفلاح. وكان قراؤه أوفى من كل الجوائز: أحبوه، ضحكوا معه، وقرأوا له كأنهم يقرأون أنفسهم.
ولعل ما يميز نبيل عودة أكثر من غيره من الكتّاب الفلسطينيين هو قدرته على الإمساك بتفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين في الداخل، وهم الذين كادوا يُمحَون من الرواية الكبرى. لم يكن بحاجة إلى خطابٍ طنانٍ أو سرديةٍ مكرورة. كان فقط يكتب الحقيقة، لكن بحبرٍ ساخر.
نبيل عودة : شهادة ضد النسيان
كل نص كتبه نبيل عودة هو صفعة للغفلة، شهادة ضد النسيان، وعدٌ بأن القلم ما زال قادرًا على المقاومة وإن لم يحمل بندقية. لقد سخر من الانقسامات الحزبية، من النفاق الديني، من القيم التي تُرفع شعارًا وتُداس سرًّا. سخر من الاحتلال، من المحرر، ومن نفسه أحيانًا. لم ينجُ أحد من قلمه، لكنه لم يكن حاقدًا أبدًا. كان محبًا حدّ الألم، حدّ الغضب.
أدبه يشبهه: بسيط في لغته، عميق في دلالته، لا يحتاج إلى تأويلات معقدة، بل إلى قلبٍ مفتوح، وضميرٍ حاضر. وحين تقرأه، تكتشف أن السخرية ليست عيبًا، بل شرف، وليست سطحيّة، بل قاعٌ من الحزن المصفّى.
في الختام…
نبيل عودة ليس كاتبًا فقط. هو ضمير. هو ذاكرة حية لمن اختنقوا بالصمت. هو ابن هذا المكان الذي يُحِبّه رغم كل خيباته. فليقرأه من لم يقرأه بعد، لا ليضحك فقط، بل ليصحو. لأن الضحك، كما يُجيد نبيل عودة أن يقول دون أن يقول، ليس نقيض الجدية، بل ذروتها
رانية فؤاد مرجية