3:09 مساءً / 24 يونيو، 2025
آخر الاخبار

الحمد لله على نعمة الإنسانية ، بقلم: رانية مرجية

الحمد لله على نعمة الإنسانية ، بقلم: رانية مرجية

في زمنٍ يضجّ بالصخب والتشظي، حيث تحوّل الإنسان إلى رقم في الإحصاءات، وصورة عابرة في نشرات الأخبار، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أن نتوقف، أن نغلق الشاشات، ونفتح القلب والعقل على تأملٍ بسيط لكنه جوهري: الحمد لله على نعمة الإنسانية.

قد يبدو هذا القول تكرارًا دينيًّا عابرًا، لكنه في جوهره إعلانُ وجود، واحتفاءٌ بنعمةٍ غابت عن وجداننا تحت ركام التكنولوجيا والاستهلاك والتنافر الطبقي والطائفي والعرقي. أن تكون إنسانًا، ببساطة، لا يعني أنك حيّ فقط، بل أنك تحمل في داخلك بوصلة أخلاق، ونبض تعاطف، ووهج ضمير، وكلها عناصر أصبحت اليوم من الكنوز النادرة.

فالإنسانية ليست مجرد هوية بيولوجية، بل هي حالة من السُمو، تتجلّى حين يشاطر الغني خبزه مع الجائع، حين يحتضن الطبيب مريضه وكأنّه أمه، حين يسهر معلّمٌ على فهم طالب لا يملك كتابًا، حين يهبّ شابٌّ لإنقاذ طفلٍ وسط قصف لا يرحم.

نعم، الحمد لله على هذه القدرة العجيبة التي وهبها لنا دون سائر المخلوقات: أن نشعر، أن نتألّم، أن نحزن لحزن الآخر، وأن نفرح لفرحه كأنّ الفرح لنا. إنها الهبة الإلهية التي تجعلنا أسمى من غرائزنا، وأقرب إلى وجه الله في الأرض.

في خضمّ عالمنا الحديث، حيث اختلطت المفاهيم، وأصبح النجاح يُقاس بعدد المتابعين لا بعدد الأيادي التي صافحتها بلطف، يصبح التمسك بالإنسانية فعلاً ثوريًّا. كيف لا، ونحن نرى كيف تتحول المجازر إلى مادة للمناكفة السياسية، وكيف يُختزل الفقراء في صورة استعطاف لا أكثر، وكيف يُترك المرضى في طابور طويل من التجاهل واللا مبالاة؟

إن الإنسان في جوهره ليس ما يملك، بل ما يمنح. فالفقر لا ينفي الإنسانية، بل أحيانًا يعمّقها، حين ترى فقيرًا يقتسم قطعة الخبز مع قطّ جائع. والغنى لا يؤكّدها، بل يفضحها أحيانًا، حين يتقوقع الغني داخل قصره زاهدًا في العالم الخارجي، يظن أنه نجا من العالم، بينما هو في الحقيقة مجرّد جثة تمشي على أقدام الذهب.

فما معنى أن نحيا دون أن نُحبّ؟ وما معنى أن نعمل دون أن نُشفق؟ وما جدوى العلم إن لم يشفِ جرحًا؟ وما قيمة الدين إن لم يوقظ فينا الحنان على الآخر، لا الكراهية نحوه؟

الإنسانية ليست رفاهية. إنها الدين الصحيح، والسياسة الأخلاقية، والفلسفة التي لا تتعالى على آلام الناس. وهي أيضًا، للأسف، أكثر ما يُستهلك بالشعارات، ويُفتقد في الواقع. كم من أنظمة تتشدّق بحقوق الإنسان وهي تنتهكها كل يوم؟ كم من رجال دين يعلون من شأن المحبة وهم يزرعون الضغينة باسم الإيمان؟ كم من مفكرٍ يدافع عن الحرية على الورق، لكنه يستعبد كل من حوله باسم العقل؟

لهذا نقول: الحمد لله على نعمة الإنسانية، حين نمارسها فعلاً لا شعارًا، حين نحملها داخلنا رغم كل ما يكسرنا، حين نصرّ على أن نُبقيها حيّة في زمنٍ يريد لنا أن نصبح آلات لا مشاعر لها، وأن نتعوّد على الظلم كأنه جزء من ديكور الحياة.

نحمد الله، لأن فينا أمًّا ما زالت تسهر على جرح ابنها، وفيًّا لم يغدر رغم المغريات، عجوزًا يُطعم قطط الشارع من معاشه الزهيد، شابًّا يُنقذ غريقًا لا يعرفه، طبيبةً تسهر في ممرات المستشفى رغم كل التعب، ومعلّمًا يشرح الدرس لأطفالٍ بلا حذاء.

نحمد الله، لأن بقايا النور لم تنطفئ، ولأن الإنسان، رغم كل شيء، لم يُقتل فيه تمامًا الإحساس بالآخر. ولأن كل دمعة حقيقية، كل ضمة أم، كل لمسة حنان، كل قبلة على جبين فقير، هي ردّ جميل لخالقنا الذي نفخ فينا من روحه، ومنحنا هذه القدرة العجيبة على أن نُحب، ونتألّم، وننهض، ونُعطي.

فلتكن الإنسانية ديننا، ومحرّكنا، ومقياسنا في كل ما نقوله ونفعله. فالله لا يُعبد فقط في المساجد والكنائس، بل في قلب كل فعل رحيم، وكل ضمير يقظ، وكل إنسانٍ لا يزال يتمسّك بآدميته رغم كلّ هذا الخراب

شاهد أيضاً

الجمعية الوطنية للتأهيل تواصل جلسات الدعم النفسي للسيدات في غزة من خلال برامج علاجيه جديده

الجمعية الوطنية للتأهيل تواصل جلسات الدعم النفسي للسيدات في غزة من خلال برامج علاجيه جديده

شفا – في ظل الظروف الطارئة والصعبة التي يمر بها سكان قطاع غزة، تواصل الجمعية …