11:06 مساءً / 14 يونيو، 2025
آخر الاخبار

قراءة في حكمة الفناء من منبر الإنسان الباحث ، بقلم : رانية مرجية

قراءة في حكمة الفناء من منبر الإنسان الباحث ، بقلم : رانية مرجية

قراءة في حكمة الفناء من منبر الإنسان الباحث ، بقلم : رانية مرجية

“خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً”


بهذه الآية الكريمة من سورة الملك يفتح الله تعالى أمام الإنسان بوابة التأمل، لا في الحياة فحسب، بل في الموت أيضًا. فالذي خلق الحياة هو نفسه الذي خلق الموت، لا عبثًا ولا قسوة، بل لحكمة عظمى، قلّ من يتدبرها وسط ضجيج الخوف والفقد.

لسنا معتادين أن نُمعن النظر في الموت إلّا حين يُداهمنا، أو يختطف من نحب، أو حين نشعر به يقترب منّا على مهل. نخشاه، نرتعب من سطوته، نتهرّب من الحديث عنه، وكأننا بوهمنا هذا نؤجل قدومه. لكن الموت، يا سادة، لم يُخلق ليرعبنا، بل ليُربّينا.

نعم، الموت تربية. إنه المدرسة النهائية في فلسفة التواضع. يأتينا ليذكّرنا بأننا لسنا أربابًا فوق الأرض، بل عابرون في مشهد قصير على خشبة الحياة. يعلّمنا أن الكرسي زائل، والمال فانٍ، والشهرة وهمٌ سرابي. كم من متغطرسٍ دفنه التراب، وكم من بسيطٍ أحياه ذكره الطيب في قلوب الناس من بعده.

الموت ليس عقابًا، كما تصوّره الأساطير أو تحقنه ثقافات الخوف. إنه جزء من النظام الإلهي المتوازن، حيث لا خلود إلا لله، ولا دوام إلا لوجهه الكريم. تخيّلوا حياة لا موت فيها، كيف ستكون؟ ظالمة، مزدحمة، بلا نهاية، بلا معنى. سيطغى فيها الإنسان أكثر، سيقتل الملل روحه، وستصبح الحياة نفسها عبئًا ثقيلاً. الموت إذًا، هو الذي يمنح للحياة قيمتها، ويضع حدودًا لطيش الإنسان.

إن الطفل الذي يموت صغيرًا لا يُعذّب، بل هو طائر من طيور الجنة، كما يخبرنا التراث الإسلامي المحمّل بالرحمة. والمريض الذي يحتمل آلامه حتى النهاية، يعلّمنا الصبر ويعلّم نفسه أن الجسد ليس إلا وعاء مؤقت للروح الخالدة. والشهيد، يا وطني، لا يموت، بل يحيا عند ربه يُرزق، وتبكيه الأرض فرحًا وامتنانًا.

وقديماً، في الحكم الصوفية، كان يُقال: “من لم يمت قبل أن يموت، مات ميتة الجاهلين”. أي أنّ الإنسان الحقيقي هو من يُدرّب قلبه على الفناء، لا بمعنى الانتحار أو اليأس، بل بمعنى التخلي عن التعلّق بما لا يدوم، وعن التمرد على قوانين الكون.

لذا، حين خلق الله الموت، خلق معه ميزانًا. ومن يتأمل الموت لا يعود كما كان. إنّ الأمهات اللاتي دفنّ أولادهن ولم يصرخن، بل سلّمن قلوبهن لله، لَهنّ منارات روحية تفوق كل الوعّاظ. أولئك يعرفن سرّ الموت، ويعرفن أيضًا أنّ الله حين يأخذ، فإنّه لا يُضيّع.

وفي زمن كثُر فيه الوجع، وفقدنا فيه الأصدقاء في الحروب، والأحبة في السرطان، والغرباء في عرض البحر، صار الحديث عن الموت ضرورة. لا لنبكي أكثر، بل لنعيش أكثر. لنفهم أن الوقت ليس بلا ثمن، وأن الحب لا ينتظر، وأن كلمة “سامحني” لا يجب أن تؤجَّل حتى الغياب.

أجل، خلق الله الموت، لا ليُرعبنا، بل لنصحو. ليذكّرنا أننا خُلقنا للحياة الأبدية، لا لتلك العابرة. خُلقنا لنبني، ونُحِب، ونغفر، ثم نغادر خفافًا، كما الطيور، إلى رحمةٍ أوسع من أن تُوصف.

وما بين الميلاد والموت، هناك فرصة اسمها “الآن”، فهل نحياها كما يجب؟

شاهد أيضاً

رشقة صاروخية من قطاع غزة على مستوطنة نير عوز في الغلاف

شفا – أعلن الجيش الإسرائيلي، مساء اليوم السبت، سقوط صاروخين أطلقا من قطاع غزة باتجاه …