4:20 مساءً / 23 مايو، 2025
آخر الاخبار

تراجيديا المعنى ، حين تُباد فلسطين في المجاز، وتُصلَب الحقيقة على خشبة الألقاب ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

تراجيديا المعنى ، حين تُباد فلسطين في المجاز، وتُصلَب الحقيقة على خشبة الألقاب ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

في زمنٍ ثقيل، تَتَواطأ فيه اللغة مع الزيف، تتناقص فلسطين من وطنٍ يُسكن الروح إلى صورةٍ تُعلّق في مؤتمرات الخُطب، وتُستدعى كلما احتيج إلى شرعيةٍ أخلاقية مزيّفة. لم تعد فلسطين تُروى بتضاريسها وجراحها، بل تُستنزف كرمز مجرّد يُوظّف لزخرفة الخواء. كأنها لم تعد مأساة حيّة، بل استعارة تُستهلك في الأدبيات، وتتآكل مع كل تكرار بارد لا يلامس طينها ولا يعي وجعها.

في هذا الزمن تتشابه مقامات الزيف، فلا فرق بين لقبٍ أكاديميٍ مُنتزع بلا استحقاق، وبين صكّ شرفٍ يُمنح لمن لم يذق طعم الخسارة. لقد أصبح الكذب مؤسساتيًا، مصقولاً بعناية، تُديره لجان وتؤهّله بيروقراطيات الكلام. فبدل أن تكون الشهادةُ نوراً، أضحت شهادة زورٍ على مذبحة الفكر. يتموضع فيها المدّعي بصفته “عالِماً” أو “مفكراً ”، فيما لا يحمل في قلبه إلا فهرساً مدفوع الأجر، وعبارات مُعلّبة تليق بحفل تكريم أو نشرة إخبارية.


تُباد فلسطين من جديد، لا بقصفٍ ولا حصار، بل باغتيال رمزها في الوعي العام. تُباد حين يَتصدر خطابَها من لا يُجيد النطق باسمها، ويُحلّل صراعها كما يُحلّل نشأة الجغرافيا في نشرةٍ بيانية. وتُقدّم مأساتها كورقة توظيف في سيرة ذاتية، أو كنقطة جدل في ندوة ممولة. هنا، تصبح الإبادة معنوية: يُمحى المعنى في سطور المنصات، وتُغتال العدالة في “ورشات العمل”، ويتحوّل التاريخ إلى مشهدية كاريكاتورية، تتقافز فيها الشعارات وتتساقط الحقائق.

ليس غريباً أن يُنادى أحدهم بـ”مفكر كبير” لأنه كتب نصًا عن فلسطين، بينما لم تطأ قدماه حجارة القدس، ولم يسمع نحيب أمٍ تحت الركام. هل يُعقل أن يُرفع من لم يحمل التابوت، فوق من قضى عمره ينقّب في وجدان الناس عن معنى الكرامة؟ ما أشبه تلك الألقاب بتصاريح العبور التي يمنحها الاحتلال؛ مشروطة ومؤقتة، لا تُعطى لمَن يستحق، بل لمَن يطيع.

هذا عصر يُزيّن فيه الموتى بالكلمات، ويُزَف فيه الفارغون في مواكب العناوين الرنّانة، بينما تُطمس في الظلّ وجوهٌ أنارت بعلمها ولم تُصفّق. نشهد اليوم نوعاً من التهجير الرمزي؛ لا تُهجّر فيه الأجساد فقط، بل تُهجّر الأصالة من الخطاب، وتُستبدل الحكمة بالبهرجة، ويُمنح المجد لمن يحفظ الخطاب لا لمن يعي المعاناة.

لقد خُلقنا لنشهد، لا لنزيّف. ومن لم يعش فلسطين وجعاً، لا يحق له أن يكتبها نصًّا، ومن لم يَبكِ على بابٍ مهدوم في حيفا، أو يحمل جثمان طفل في جنين، فلا يُلقّب باسمها. فهي ليست شهادة تُعلّق على الجدار، بل امتحانٌ دائم للضمير.

فلسطين ميزان، وليست مادةً للاتجار الرمزي. ميزانٌ تُوزن به الضمائر لا الأقوال، وتُقاس به الأسماء لا الألقاب،
ومن لم يزنه قلبه، فلا يزنه تاريخه، ولا ينفعه لقبٌ، ولو زُوّد بألف توصية

شاهد أيضاً

الرئيس يلتقي لجنة إقليم حركة فتح في لبنان

شفا – التقى رئيس دولة فلسطين محمود عباس، اليوم الجمعة، مع وفد من لجنة إقليم …