4:34 مساءً / 7 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

عامان على الرماد .. ، حين يصبح الخراب ذاكرةً ناطقة ، بقلم : د. منى أبو حمدية

عامان على الرماد .. ، حين يصبح الخراب ذاكرةً ناطقة ، بقلم : د. منى أبو حمدية


عامان مضيا على الكارثة، لكن الزمن في غزة لا يُقاس بالتقويم، بل بالأنقاض.


كلّ حجرٍ هناك يحمل تاريخا من الألم، وكلّ ظلٍّ على الجدار تذكيرٌ بما كان !! انسانا ثم غاب!!


في المدن التي تشهد الحروب، يظلّ الخراب مجرد حادثٍ طارئ، أمّا في غزة، فقد صار نمط حياة، ومعنى للوجود ذاته!!
عامان من الليل الذي لا ينتهي، من الغبار الذي يسكن الرئة والذاكرة معا ، من الأطفال الذين تعلّموا العدّ لا بالأرقام، بل بأسماء الغائبين!!


لم تكن الإبادة في غزة حدثاً عسكرياً فحسب، بل تجربة إنسانية متطرفة، اختُبر فيها معنى الفناء الجماعي أمام صمتٍ عالميٍ طويل و رهيب.


تحوّلت المدينة إلى مختبرٍ للألم، وإلى مرآةٍ تعكس هشاشة الإنسانية حين تُترَك لتواجه الرماد وحدها.
هناك، في الزوايا التي لم تصلها الكاميرات، ما زالت الأرواح المجهولة تهمس في الحجارة، وما زال الغبار يروي ما عجزت عنه التقارير الدولية والخرائط الرسمية.


صحراء إسمنتية تمتدّ بلا نهاية


بعد عامين، لم تعد غزة مدينةً تُرى من الأعلى، بل لوحة رمادية كثيفة تشبه صحراء من الإسمنت.
أحياءٌ كاملة اختفت من الخرائط، تحوّلت إلى فضاءاتٍ ملساء، لا ملامح لها، سوى بقايا جدرانٍ متفحمة تشير إلى حياةٍ كانت هنا !


الطرقات التي كانت تضجّ بأصوات الأطفال تحوّلت إلى ممرّاتٍ من الغبار.


والبحر — الذي كان ملاذاً من الاختناق — صار هو الآخر شاهداً على احتراق الذاكرة عند الشاطئ.
تصف دراسات العمران بعد الكوارث أنّ المدن لا تموت حين تُهدَم، بل حين تفقد تفاصيلها اليومية.
وغزة اليوم فقدت التفاصيل: لم يبقَ شارع يعرف نفسه، ولا نافذة تتعرف على بيتها القديم.
في المساحات الرمادية الممتدة، تتكدّس الخيام مثل جروحٍ بيضاء وسط الركام، ترتجف في مهبّ الريح وكأنها تذكّر بأن الحياة لم تعد سوى إقامةٍ مؤقتة في الانتظار.


محرقة الخيام: حياةٌ مؤقتة على أطراف العدم


في السنة الثانية، لم تعد الخيام رمزاً للنجاة، بل صارت دليلاً على استمرار العذاب.
تحت الشمس اللاهبة، وفي الليالي التي ينام فيها البرد على الأجساد، تتجاور القصص والحكايات كما تتجاور القبور.
الخيام ليست بيوتا بل شهاداتٍ قماشية على فشل العالم في إنقاذ البشر.
تُعرف في الأدبيات الإنسانية الحديثة باسم “الذاكرة المعلّقة” — حيث يعيش الناس بين الحياة والغياب، في انتظارٍ طويل لا نهاية له.


فالخيمة تحمل رائحة النار والبلل، وأصوات بكاءٍ مكتومٍ يختلط بصفير الريح.


فيها أطفالٌ لا يعرفون من العالم سوى حدودها، ونساءٌ ينسجن من القهر ستائر كي يحفظن ما تبقى من الخصوصية والكرامة.
تحت كلّ خيمة حكاية، وتحت كلّ حكاية نطفة وجع جديدة، تولد كلّ صباح.

الإنسان في مواجهة العدم


حين يُحاصر الإنسان بين الخراب والعزلة، يتحوّل وجوده إلى سؤالٍ فلسفيٍّ مفتوح.
كيف يواصل العيش في مكانٍ لم يعد يشبه الحياة؟


في غزة، لا ينجو أحدٌ فعلاً، بل يتعلّم الجميع فنّ التعايش مع الفقد.


هناك، لا يُقاس الحزن بالبكاء، بل بالصمت الطويل، بالصبر الذي صار غريزة، وبالعيون التي ترى ولا تستطيع أن تصدّق.
يشير علم الاجتماع الكارثي إلى أنّ المجتمعات التي تتعرض للإبادة تتغيّر بنيتها النفسية واللغوية على السواء.
في غزة، تتكلم الوجوه لغةً واحدة هي لغة الصمت.


لا حاجة للكلمات حين يصبح الدمار أكبر من النطق، وحين تصير المشاهد اليومية — جثة على الرصيف، مدرسة بلا سقف، أمّ تبحث في الركام عن صورة — لغةً قائمة بذاتها.

ما بعد الفناء: اللغة كذاكرة للبقاء


في عامين الابادة والخراب ، وُلدت في غزة كتابة جديدة — كتابة الوجع والقهر.
هي ليست نصوصاً أدبية بالمعنى التقليدي، بل شهادات وجودٍ تسعى لتثبيت أثر ما تبقّى من الإنسان.
من الرسائل التي لم تُرسل، إلى دفاتر الأطفال التي علقت في الغبار، إلى الجدران التي كتب عليها الناجون أسماء أحبّتهم بخطٍ مرتجف، كلّها تشكّل ارشيفا انسانيا مفتوحا على الألم.


الكتابة هناك ليست ترفا ثقافيا بل وسيلة بقاءٍ رمزية.


حيث الجملة التي تُكتب هي محاولة لإنقاذ شيء من الفناء، وكلّ كلمةٍ تُقال تُعيد للحياة معناها ولو مؤقتا.
في الأدب المقارن، تُسمّى هذه الظاهرة بـ “لغة الأنقاض” — أي اللغة التي تولد من قلب الدمار، لا لتُزيّن المشهد، بل لتمنحه شهادة الوجود.


غزة بعد عامين… الذاكرة التي لم تُدفن


مرّ عامان، وما زال الغبار معلقا في الهواء كطبقةٍ من الذاكرة.
لم تعد غزة تبحث عن الخلاص، بل عن الاعتراف: أن يُقال ببساطة إن ما حدث كان فناءً إنسانيا لا يُبرَّر.
الإبادة لم تنتهِ، لأنها لم تُفهم بعد؛ فما زال العالم يمرّ من أمام الخيام كمن يمرّ أمام المرآة وهو يشيح بوجهه.
غزة اليوم ليست مدينةً مدمّرة فحسب، بل ضمير مؤجَّل للعالم بأسره.


فيها يلتقي الرماد بالنجاة، والسكوت بالصرخة التي لم تُسمع بعد.
هي الذاكرة التي ترفض أن تُدفن، مهما تكاثف فوقها الإسمنت، ومهما طال الليل.
“في غزة، لا يعود الصباح كما كان… لكنه رغم ذلك يأتي.”

شاهد أيضاً

وزير الخارجية الصيني وانغ يي الصين

وزيرا خارجية الصين وكوريا الجنوبية يعربان عن استعداد البلدين لتعميق العلاقات الثنائية

شفا – أعرب وزير الخارجية الصيني وانغ يي، اليوم الثلاثاء، عن استعداد الصين للعمل مع …