
قراءة نقدية في المجموعة الشعرية ترانيم تقترف الوله للشاعرة فاطمة الفلاحي ، بقلم : رانية مرجية
أولًا: العنوان كعتبة دلالية – بين الفعل والطقس
يأتي العنوان «ترانيم تقترف الوله» بوصفه مفتاحًا تأويليًا لروح الديوان بأكملها.
فـ«الترانيم» تحيل إلى النقاء والقداسة، بينما «الوله» يشي بالذوبان والخطيئة العاطفية، أما الفعل «تقترف» فيحمل دلالة الجرم والمغامرة.
بهذا التركيب المكثّف تُعلن الشاعرة منذ اللحظة الأولى عن تعايش المتناقضات داخل التجربة الشعرية: الطهر والإثم، السكون والعاصفة، الروح والجسد.
إنها عتبة تنتمي إلى جماليات التناص الصوفي، إذ يتحوّل العشق إلى نوع من العبادة المتمرّدة، عبادة بلا محراب ولا وصايا، بل طقسٌ شخصيّ تنسكبه فيه اللغة كدمٍ حارّ.
ثانيًا: الشعر ككيمياء وجودية – الذات الأنثوية في مواجهة الكينونة
تكتب فاطمة الفلاحي من منطقة لا تنتمي إلى “المرأة العاشقة” التقليدية، بل إلى الكائن الوجوديّ الباحث عن معنى في العتمة.
فالحب في هذا الديوان ليس عاطفةً، بل سؤال أنطولوجيّ عن ماهية الوجود.
من هنا نفهم لماذا تتماهى الذات الأنثوية مع عناصر الطبيعة (المطر، البحر، القمر، الندى)، فهي تبحث عن خلودٍ لا يمنحه الواقع، بل تمنحه القصيدة.
في مقطعٍ من «أنت يا أنا» تقول:
“هل تدري أن صخب صمتك يسكن الحنايا،
مضرّجةً به الروح والجنبات.”
هذا البيت يكشف عن فلسفةٍ كاملة: إنّ الصمت (بوصفه غيابًا) يتحوّل إلى كيانٍ يسكن الوجود، أي أن العدم يصبح شكلاً من الحضور.
تلك المفارقة الوجودية هي جوهر التجربة الشعرية لدى الفلاحي.
ثالثًا: المعمار الجمالي – من النثر الشعري إلى التراتيل الرمزية
نصوص الديوان تتحرك بين النثر والشعر الحرّ، لكنها تحتفظ بإيقاعٍ داخليّ لا يُقاس بالوزن، بل بـ نَفَس التجلّي.
الإيقاع عند الفلاحي ليس صوتًا، بل حالة وجدانية تُبنى من تكرار الجمل، والتوازي، والانسياب النغمي الذي يشبه الصلوات السرّية.
نقرأ مثلًا في «همسني»:
“خذي كل شيء – سنيني، عذب همسي، حلمي اللاهج بك – حتى نبضي.”
هذا التكرار الإيقاعي يمنح النص قداسة التلاوة.
اللغة تتحوّل إلى صوت صلاةٍ داخلية، تتضرع فيها الأنثى لا إلى الحبيب فحسب، بل إلى المعنى ذاته، إلى المطلق الذي يتخفّى خلف العشق.
رابعًا: الرؤية الصوفية – العشق كطريق إلى المطلق
في معظم قصائد الديوان، يتحوّل العشق إلى وسيلة للاتحاد، تمامًا كما في الفكر الصوفي عند الحلاج أو ابن عربي.
لكنّ الفلاحي تعيد صياغة هذه التجربة بروحٍ أنثوية معاصرة:
فهي لا تطلب الفناء في “الإله”، بل في “الآخر” كرمزٍ للذات العليا.
في قصيدة «تهمة ابنة لحظة» تقول:
“الشعر غواية، وطأتها حروف التجني… لكني سأقطف كل يوم ترانيم للتغني من روض حرفي.”
هنا يتجلّى الفعل الشعري كخطيئة مقدّسة.
الشاعرة لا تنكر غواية الشعر، بل تحتفي بها؛ فهي ترى في الكتابة وسيلة للخلاص، مثلما يرى المتصوف في الألم طريقًا إلى النور.
تتحول القصيدة إذًا إلى محرابٍ وجوديّ، تُقام فيه طقوس الاعتراف والحرق والتطهّر، فالشعر عندها ليس مهنة بل قدر.
خامسًا: الرمزية والمجاز – تعددية الدلالات وتكامل الصور
تشتغل الفلاحي على الصورة الشعرية كأداة كشفٍ لا وصف.
فهي لا ترسم المشهد، بل تُعيد خلقه من الداخل.
الرمز عندها ليس زخرفة بل كيان دلاليّ متحوّل.
في «لون روحك» مثلًا، تكتب:
“المرايا انعكاسات تبعثرني من على حافة الحلم،
فأتلاشى كلون روحك.”
المرآة هنا ليست سطحًا للانعكاس، بل مساحة للانمحاء.
إنها رمزية الذات التي تفقد حدودها حين تواجه المعشوق.
بهذا الأسلوب، تتحوّل كل قصيدة إلى فضاءٍ تأويليّ مفتوح، قابلٍ للقراءة الفلسفية والروحية والجمالية معًا.
سادسًا: ثنائية الحضور والغياب – فلسفة الزمن العاطفي
يتكرّر في الديوان حضور الغياب كقوة فاعلة.
فالحبيب الغائب لا يُمحى، بل يتكاثر في اللغة كطيفٍ دائمٍ للحضور.
إنه ما يسميه الناقد الفرنسي بول ريكور “زمن الذاكرة الشعرية”:
زمنٌ لا يُقاس بالساعات، بل بالنبض والحنين.
في «أنشوطة الغياب» تقول:
“أدسك في دمي عطراً… وأتشرد فيك.”
الغياب هنا لا يُبكي، بل يُعيد تشكيل الكينونة.
فهو يغدو جوهرًا وجوديًا، لأن الشاعرة لا تكتب عن الحبيب بل عنه في داخلها، كأنه جزءٌ من هندسة الروح.
سابعًا: المرأة الكاتبة – من التلقي إلى التجلّي
تُقدّم الفلاحي نموذجًا مغايرًا للكتابة النسوية:
ليست الأنثى هنا مفعولًا به في اللغة، بل ذاتًا منتجة للمعنى.
فهي لا تشتكي من الحبّ، بل تُؤسّس له كنسق معرفيّ وروحيّ.
إنها أنثى تُحاور اللغة لا لتزيينها، بل لتفجيرها من الداخل.
تقول في إحدى القصائد:
“يبقيني تميمة حبٍّ يستقي منها الوريد.”
هذا الوعي اللغوي العميق يجعل من ديوانها تجربةً تتجاوز حدود “الكتابة النسائية” الضيقة إلى فضاء الشعر الإنسانيّ الشامل، حيث تتلاشى الفروق بين الذكر والأنثى، ليبقى الجوهر واحدًا: الإنسان في محاولته الدائمة لملامسة المطلق.
ثامنًا: البنية الفلسفية – الشعر كوعيٍ وجوديٍّ بالزمن والموت
في خلفية النصوص، يلوح الهاجس الوجوديّ واضحًا.
فالعشق هنا ليس لذّة، بل مقاومة للفناء.
الشاعرة تُحاور الزمن من موقعٍ هشّ، لكنها تخلق من هشاشتها قوة رمزية.
إننا نسمع أصداء سارتر وكامو في انحيازها للإنسان الباحث عن معنى وسط عبث الحياة،
ونسمع صدى ابن عربي في قولها الشعري الذي يمزج بين الروح والدم، بين الوجد والمعرفة.
إنها شاعرة تعرف أن الجمال لا يكتمل إلا عندما يتجاور مع الألم،
وأن الشعر لا يولد من اليقين، بل من الدهشة والشكّ والخسارة.
تاسعًا: القيمة الجمالية والتجريب الفني
من الناحية التقنية، نجحت الفلاحي في تجاوز الخطاب العاطفي التقليدي نحو بناء معمارٍ لغويٍّ حرّ ومتجاوز.
قصيدتها تتحرك بين السردية والانخطاف، بين التشكيل الموسيقيّ والتوهّج الرؤيويّ.
هي كتابة تنتمي إلى شعر التجربة الصافية، لا إلى التوصيف أو الإخبار.
ولذلك فإن الديوان يشكّل علامة فارقة في الشعر النسوي العربي المعاصر،
لأنه يزاوج بين الحسّ الجماليّ الرفيع والرؤية الفلسفية العميقة دون ادعاء أو مباشرة.
عاشرًا: خاتمة – الشعر كحياةٍ ثانية
ديوان «ترانيم تقترف الوله» ليس مجرد نصّ أدبي، بل سيرة روحية لامرأةٍ تعرف أن الحبّ شكلٌ من أشكال الخلق.
تكتب فاطمة الفلاحي لتقول لنا إن الإنسان لا يُخلّد بما يملكه، بل بما يكتبه من وجده، وما يتركه من أثرٍ في الروح.
قصائدها تشبه المرايا القديمة التي لا تعكس الملامح، بل تكشف ما وراءها.
وحين تنتهي من القراءة، تدرك أنك لم تمرّ على قصائد حبّ، بل عبرت طقوس معرفةٍ داخلية بين الشاعرة وذاتها، بين الأرض والسماء، بين الإنسان وظله.
خلاصة القول
«ترانيم تقترف الوله» عملٌ يزاوج بين الوجد الصوفيّ والعقل الجماليّ،
يكتب الحبّ بوصفه لغةً للوجود لا انفعالًا عابرًا.
فاطمة الفلاحي في هذا الديوان تُعيد تعريف الشعر كفعل خلاصٍ ومعرفةٍ في آنٍ واحد