
“حين سكتت نورة… تكلّم الحيّ كلّه” ، بقلم : ا.د. عطاف الزيات
في زقاقٍ صغيرٍ على أطراف المدينة، كانت “نورة” تمشي كل صباح بخطواتٍ متردّدةٍ تحمل بين طيّاتها حكايةً لا تُروى. لم تكن تُلقي التحية على أحد، ولا ترفع رأسها حين تمرّ بالنساء اللواتي يجلسن على عتبات البيوت يتهامسن بأحاديثٍ لا تنتهي. كانت نورة صامتة، لكن صمتها كان أبلغ من كلّ الكلام.
كانت نظراتها تقول الكثير: عن امرأةٍ تُحارب وحدها، وعن مجتمعٍ لا يسأل “لماذا” بل يكتفي بأن “يحكم”.
حين طلّقها زوجها بعد عشر سنوات من الصبر، لم يتعاطف معها أحد. صاروا يتهامسون: “أكيد فيها شيء”، “زوجها ما طلّقها عبث”، “كانت مغرورة من زمان”. ولم يسأل أحدٌ: هل جُرحت؟ هل احتاجت إلى دعم؟ هل وجدت من يحتضن ضعفها؟
بدأت نورة تُغلق نوافذ بيتها الصغير، وانكمشت داخل عالمٍ من الصمت والخيبة. كانت تخرج لتشتري حاجاتها سريعًا، وتعود قبل أن تلتقي عيون الناس. لكنّ ذات صباح، رآها طفلٌ صغير من أبناء الجيران تحمل أكياسًا ثقيلة، فركض ليساعدها. ابتسمت له للمرة الأولى، فشعر كأنّ الربيع مرّ من الحيّ.
بدأ الناس يلاحظون تلك الابتسامة الخجولة. اقتربت منها إحدى الجارات وقالت بلطف:
“سامحينا يا نورة، يمكن ظلمناكِ بكلامنا.”
فأجابت نورة بابتسامةٍ صادقة:
“مو مهم إنكم غلطتوا… المهم إنكم فهمتوا.”
ومنذ ذلك اليوم، تغيّر الحيّ. صاروا يسألون عن أحوال بعضهم، ويساعدون من يتعثر، ويكفون عن إطلاق الأحكام الجاهزة.
لقد كانت نورة درسًا صامتًا في الإنسانية.
الرسالة الاجتماعية:
كم من “نورة” نمرّ بجانبها كل يوم، نحكم عليها دون أن نعرف حكايتها!
فلنتعلّم أن نسمع أكثر مما نحكم، وأن نمدّ يدًا بدل أن نرمي حجرًا.
فالكلمة الطيبة… قد تُعيد إنسانًا إلى الحياة.
- – ا.د. عطاف الزيات كاتبه وقائده تربويه – فلسطين