
المرأة العربية والفلسفة: تشريح التغييب وآفاق التحرر ، بقلم : فداء بن عرفة
تشكل إشكالية حضور المرأة العربية في الحقل الفلسفي مأزقاً وجودياً ومعرفياً يعكس أزمة المشروع النهضوي العربي في شموليته. فالتاريخ الفلسفي العربي، شأنه شأن التواريخ الفلسفية العالمية، ظل حكراً على الأسماء الذكورية، ليس بسبب عجز جوهري في العقل الأنثوي، بل نتيجة آليات إقصاء منهجية عملت على تغييب العقل النسائي وتهميش إسهاماته.
تنطلق آليات التغييب هذه من تأويلات تراثية انتقائية، تسيجهـا سلطة ذكورية تشرعن إقصاء المرأة من فضاء التفكير الفلسفي. كما يساهم الخطاب الديني المسيّس في إضفاء شرعية دينية على تهميش العقل الأنثوي. ولم تستطع الحداثة العربية تقديم مشروع تحرري حقيقي، حيث اكتفت بتبني حداثة تقنية هجينة حافظت على البنى الذكورية التقليدية في المجال الثقافي والمعرفي.
على المستوى البنيوي، تنتج المؤسسة التعليمية العربية وتعيد إنتاج التهميش عبر مناهج دراسية تكرس النموذج الذكوري في عرض التاريخ الفلسفي. وتعمل المؤسسة الإعلامية على تعزيز الصور النمطية عن العقل الأنثوي، بينما تحافظ الأكاديميا على هيمنة ذكورية في آليات التوظيف والترقية والتمثيل. مما يخلق اغتراباً مزدوجاً للمرأة العربية في الحقل الفلسفي: اغتراب عن تراثها الذي يُحرم عليها قراءة نصوصه الفلسفية العميقة، واغتراب عن حداثة تظل حبيسة المركزية الغربية.
رغم هذه الآليات القاسية، برزت نماذج نسائية عربية قدمت مقاومة معرفية جديرة بالدراسة. من الرائدات المخفيات نذكر عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) التي قدمت قراءة أنثوية متجددة للتراث، ونازك العابد التي جسدت سؤال التحرر بين السياسة والفلسفة، ووردة اليازجي التي استطاعت اختراق الحقل الأدبي الفلسفي في عصر النهضة. وفي العصر الحديث، نجد أسماء مثل د. ناصيف نصار في تشخيصه الدقيق لإشكالية المرأة العربية والفلسفة، ود. أسماء المرابط في تفكيكها للخطاب الذكوري في قراءة التراث، ود. فاطمة حافظ في معالجتها إشكالية الهوية والاختلاف.
تواجه دراسة الفلسفة النسائية العربية إشكاليات منهجية عميقة، أولها إشكالية التصنيف: فهل يمكن الحديث عن فلسفة نسائية عربية كحقل مستقل؟ أم أن هذا التصنيف يحمل خطر تهميش الإبداع النسائي كفرع ثانوي؟ كما تبرز إشكالية المنهج في الاستلاب المنهجي، حيث تتبنى بعض الدراسات أدوات غربية غير قادرة على قراءة خصوصية السياق العربي، أو تقع في فخ النسبوية التي تختزل الإبداع الفلسفي النسائي إلى مجرد خصوصية ثقافية. ولا ننسى إشكالية التمثيل: فهل تمثل الفيلسوفات العربيات كل المرأة العربية؟ وهل يمكن تجنب خطر الإمبريالية النسوية التي توظف قضية المرأة العربية في صراعات أيديولوجية غربية؟
تتطلب آفاق التحرر مشروعاً متكاملاً يبدأ بتفكيك البنى الذكورية عبر نقد العقل الذكوري الأحادي في قراءة التراث، وتفكيك الثنائيات التقليدية مثل عقل/عاطفة، عام/خاص، موضوعي/ذاتي. كما تحتاج إلى إعادة بناء المنهج عبر بلورة منهجية عربية نسائية تقرأ الاضطهاد المزدوج الذي تعانيه المرأة العربية، وتطوير أدوات تحليلية تجمع بين النقد الاجتماعي والتحليل الفلسفي. ولا بد من استراتيجيات مواجهة ثلاثية تقوم على المقاومة المعرفية عبر إنتاج معرفة بديلة، والمقاومة المؤسسية عبر اختراق الأكاديميا والنشر، والمقاومة المجتمعية عبر تغيير الوعي الجمعي.
إن تحرير العقل العربي من أغلاله التاريخية لن يكتمل دون تحرير نصفه المغيَّب. فالمستقبل الذي ننشده لا يقوم على ثنائية ذكورية وأنثوية، بل على تكامل إنساني يحتفى فيه بالعقل بغض النظر عن جسد حامله. والفلسفة الحقيقية هي التي تتسع للجميع، وتنبض بكل الأصوات، وتضيء بكل العقول. فتحرير المرأة الفلسفية ليس منحة تقدم لها، بل ضرورة وجودية لتحرير المجتمع بأكمله.
- – فداء بن عرفة – تونس