
حسام زملط يُعيد تعريف الدبلوماسية الفلسطينية : بين السفراء وهاتف الفلسطيني العادي ، بقلم : المهندس غسان جابر
في الندوة السياسية التي عُقدت مؤخرّاً في مدينة الخليل, لم يكن السفير حسام زملط بصدد تلاوة نشرة محفوظة من أرشيف وزارة الخارجية. بل، وبنبرة حادّة وواقعية، فجّر حقيقة بسيطة ومزعجة في الوقت نفسه: ربما لم تعد الدبلوماسية تُدار من الطابق السابع في مبنى وزارة الخارجية… بل من هاتفك المحمول.
وهذه العبارة – التي بدت في البداية مجرّد تعليق عابر – كانت في الحقيقة مفتاحًا لتفكيك مسار الدبلوماسية الفلسطينية منذ الستينيات وحتى اليوم.
لنكن صريحين مع أنفسنا:
هناك لحظة ما في كل ندوة فلسطينية تشعر فيها بأنك على وشك أن تسمع نفس الجملة التي سمعتها في 1994، مرفقة بنفس الابتسامة الرسمية التي لا تتحرك فيها عضلة واحدة. ثم جاء زملط، وبدل أن يوزّع علينا “مجرد سرد تاريخي”، قرّر أن يقول ما لا يقال في العادة.
في الستينيات، عندما كانت الحقيبة الدبلوماسية تحتوي على منشورات سرّية أكثر مما تحتوي على بطاقات دعوة، كان الفلسطينيون يعرفون تمامًا لماذا يتنقلون بين هافانا والجزائر وبراغ. كانت هناك رواية حارّة ومباشرة لا تحتاج إلى مترجم. “نحن شعب مقهور ونُريد أن نستعيد وطننا”. انتهى.
ثم جاءت 1974، ووقف ياسر عرفات في الأمم المتحدة – تلك اللحظة التي نُحب أن نستعيدها أكثر مما نحب – وقال جملته الخالدة عن غصن الزيتون. وقتها، اهتزت القاعة. نحن لم نكن مجرّد قضية إنسانية بعد الآن… بل طرف سياسي له أسماء وأصوات وصور.
وفي 1988، ووسط رائحة الحجارة والدواليب المشتعلة في شوارع نابلس والخليل وغزة، أُعلن الاستقلال من الجزائر. كانت تلك اللحظة أشبه بمشهد سينمائي نُقِرّ أنه كَبُر في الذاكرة أكثر مما كَبُر في الواقع. ومع ذلك، كان لها أثر حقيقي: أكثر من 100 دولة قالت “نعم، هذه فلسطين”.
ثم… حدث شيء لا يرويه أحد في كتب التاريخ:
الاجتماع بدأ يطرد الرواية.
أصبح لدينا “لقاءات”، “مشاورات”، “مبادرات”، “جولات”. ومع الوقت، شَعَر الفلسطيني – من جنين إلى لندن – وكأن الدبلوماسية تحولت إلى سباق بطيء بين موظفين ينتظرون استراحة القهوة.
وهنا يظهر حسام زملط، لا كمن يُقدّم محاضرة في التاريخ، بل كشخص يقول لك بصراحة مرحة:
“هل لاحظتم أن بعض التغريدات عن غزة أثّرت في الشارع البريطاني أكثر من 45 مؤتمر رسمي؟”
الرجل لم يقل ذلك من باب الفلسفة، بل من خبرة ملموسة. في لندن، لم يفتح زملط الأبواب عبر البروتوكول، بل عبر الرواية الإنسانية المباشرة. وقف أمام الإعلام البريطاني كما يقف شخص فلسطيني أمام متجر في شارع أكسفورد، وقال ببساطة: أنا لا أطلب تعاطفكم… أطلب أن تسمعوا الحقيقة.
والنتيجة؟
انحياز واضح داخل الجامعات، تراجع لغة “الطرفين” (أي الخطاب الذي يساوي بين الضحية والمعتدي ويُقدّم القضية وكأنها “نزاع بين طرفين متكافئين”) في بعض الصحف، وانتقال القضية من “خبر خارجي” إلى “موضوع رأي عام” — وكل ذلك في وقت ما تزال فيه الدبلوماسية الرسمية تقيس نجاحها بعدد الصور التي تُلتقط مع سفراء آخرين.
اليوم، وبنبرة محزنة ولكن واقعية، نحن أمام لحظة يتحوّل فيها كل فلسطيني خارج الوطن إلى قنصل عام، وكل منشور على “تويتر” إلى بيان سياسي، وكل فيديو مؤثر إلى خطاب أممي مصغّر.
والأهم في كل ما قاله زملط أنه لم يضع “الفرد” في مواجهة “القيادة”، بل أشار – بطريقة ذكية – إلى أن الدبلوماسية الشعبية ليست بديلاً عن الجهد الرسمي، وإنما الذراع التي تحتاجها القيادة لتصل إلى حيث لا تصل البروتوكولات واللقاءات المغلقة.
نداء في نهاية النفق
وقبل أن نغادر هذه الندوة ونعود إلى حياتنا، فلنطرح السؤال الوحيد الذي يستحق الطرح:
هل ما زلنا ننتظر أن يبدأ “التحرك السياسي” من المقاطعة، أم أننا سنبدأه من هواتفنا؟
ربما أصبح من الضروري أن نبدّل الصيغة القديمة:
بدل “القيادة أولًا ثم الشعب”،
لنبدأ بـ”فيديو صغير، منشور صادق، موقف شجاع… ثم لعلّ القيادة تلحق بنا”.
وبصراحة؟
إذا كان حسام زملط استطاع أن يخلخل الرواية الإسرائيلية في شارع بارد مثل لندن، فليس من المستحيل على طالب فلسطيني في مانشستر أو فنانة في برلين أن تفعل الشيء نفسه.
هاتفك ليس مجرّد جهاز… إنه السفير الذي لم تعيّنه الخارجية بعد.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.