
من طفولة منفجرات إلى أسطورة الاسر ايمن جعيم سيرة. الصمود التي حوّلت القيدَ إلى حرية ، بقلم : فداء بن عرفة
في قاقون الباسلة، حيث تُنسج أعظم قصص الصمود، وُلدت أسطورة اسمها أيمن جعيم. لم يكن طفلاً عادياً، بل كان بركاناً بشرياً يثور بالطاقة والجموح، عقلاً متقداً يبحث عن المعنى في عالم يرفض فهم لغته.
منذ سنواته الأولى، أظهر أيمن تميزاً غريباً. بينما كان الأطفال يلعبون بالكرات، كان هو يجمع قطع المعادن والمواد الكيميائية ليصنع منها متفجرات بدائية. يداه الصغيرتان تحولان الخردة إلى أدوات خطيرة، وعقله الصغير يبحث عن تفسير لعالم لم يستطع استيعاب قوانينه.
لم يكن والده يعلم كيف يتعامل مع هذه العاصفة الإنسانية، فنفاه مع عائلته إلى دار الجدة في الريف. لكن الأيام في الريف أثبتت أن المشكلة أعمق من ذلك، ففي ظهيرة حارقة، انفجرت طاقات أيمن المكبوتة ليطلق رصاصات بندقية والده في الهواء، كأنه يعلن الحرب على عالم لم يفهم عبقريته المتفجرة.
تجربته مع القنبلة اليدوية التي وضعها تحت حمار الجار لم تكن مجرد عبث طفولي، بل كانت تجربة علمية في عقل عالم صغير. المشهد السريالي للحمار وهو يرتفع في الهواء ثم يهوي، كان النقطة الفاصلة التي جعلت العائلة تودعه الملجأ.
لكن الحقيقة كانت أن هذا الطفل المشاكس كان عبقرياً حقيقياً، يتقن الرياضيات ببراعة، ويجيد الرسم والكتابة، وكان شغفه الحقيقي بفنون المقاومة وعلوم القتال، وكأن القدر كان يعدّه لدور عظيم في مسيرة النضال.
لم يكن مفاجئاً أن يجد هذا الفتى الفلسطيني الثائر نفسه وراء القضبان في الثانية عشرة من عمره، ليبدأ رحلة أسر استمرت خمسة وعشرين عاماً. في زنزانة الاعتقال، حيث يتجمد الزمن، كان أيمن يخلق عالمه الخاص، عالماً تقف فيه الإرادة سداً منيعاً في وجه اليأس.
كانت أخطر المعارك تلك التي تدور في داخله عندما تصل أخبار الأهل: مرض أو وفاة أو فرح حُرم من مشاركته. في تلك اللحظات كان يشعر وكأن قلبه يتمزق، لكن وجود رفاق الدرب كان السلاح الأقوى في مواجهة هذا الألم.
في عتمة السجن، اكتشف أيمن سراً من أسرار القوة، وجد في الدعاء ملاذاً أميناً. في الثلث الأخير من الليل، كان يسكب دموعه بين يدي الخالق، دموع طفل يشتاق إلى حضن أمه، ورجل يؤمن بأن الحرية قادمة لا محالة.
عندما وقف أمام القاضي وسُئل: “هل ندمت؟”
أجاب بصوت هادئ وحاسم:”نعم ندمت لأنني لم أقتل الكثير منكم”
لم تكن هذه الكلمات تعبيراًعن العنف، بل كانت شهادة إيمان بعدالة القضية، وإعلاناً بأن الروح التي تؤمن بحقها لا تعرف الخوف.
يا أيها البطل الذي من طفولته
شق الدروب وحمل الأعباء
في قاقون الباسلة الماجدة
نشأت تحمل قلب صقر وعي
كنت الطفل الذي بعقل عالم
يبدع في الحرب إتقانا وإضاءة
من بين أزقة الحي والبيوت
برعت في صنع الأساليب الخطيرة
تحت السرير وفي زوايا الدار
كنت تخبئ فكرك التخطيطي
لم تكتب الأقدار غير الجدار
لروحك الحرة الكبيرة
رأيت في الأسر ما رأى الأحرار
وصنعت من ألم السجون معالما
خمس وعشرون حولا من صراع
شيدت فيها مجدنا وتكارما
لم تنحن للقيد وللجلاد
وحملت في قلبك الوفاء عظيما
يا من رأى الأحباب من خلال الحبوس
وتحمل الأوجاع الكبيرة صبورا
لم ينس قط وطنا ولا أهل
وبقي في دعوته مسرورا
سجلت بالصبر الجميل حديثا
سيبقى في التاريخ مذكورا
سل ساجنيك وكل من كانوا
عن سر قوتك التي لا تنهار
سيقولون رأينا جبلا شامخا
فوق السجون وفوق كل الأسوار
رأينا الإرادة التي لا تموت
ورأينا نور الحق والانتصار
عش يا أبا الجود ويا بطل
أنت الذي علمتنا معنى الكرامة
ستبقى نبضا في قلوب الأحرار
وسطورا في كتاب الأجيال دوّناها
لن ننس قط دموعك الحارة
والليالي التي رأت إباءها
أيمن يا شاهد الوفاء والعز
أنت الفتى وأنت سر الانتصار
ستبقى فخرا للعروبة والدين
ونورا يهدي كل من في القيد
ستبقى أسطورة في الأرض تمشي
وتحكي قصة صبر واغتراب
هذه قصيدتي لقلبك الكبير
وهواء من نسيم أرض الخلود
أقولها والحر يبقى حرا
ويميت الأسير وهو سجين الوجود
فإذا كنت أسرفت في الأغلال
فقد أسررت قلب كل الحرود
سلام عليك يا شاهد الحجارة
ويا نظام الكون والأقدار
سلام عليك وعلى صبرك
الذي أعطى للحرية الأسرار
أنت البطولة.. أنت في القلب سر
وأنت في أمتنا نبض الأنهار
بعد ربع قرن من الأسر، خرج أيمن جعيم يحمل في قلبه كل آلام الماضي، لكنه خرج محملاً بالأمل والتصميم. لم يخرج ذلك الطفل المشاكس، ولا الشاب الثائر فحسب، بل خرج رمزاً للصمود، شاهداً على أن الروح التي تؤمن بعدالة قضيتها لا يمكن لأي قضبان أن تحبسها.
قصة أيمن جعيم ليست مجرد سيرة ذاتية، بل هي درس في كيف يمكن للإنسان أن يتحول من طفل مشاكس إلى رمز للصمود، من أسير إلى حر، من إنسان عادي إلى أسطورة خالدة. هو الذي عاش من أجل قضيته، وتحمل في سبيلها كل أنواع الألم، ليكون شاهداً للأجيال القادمة على أن الإرادة أقوى من كل السجون، وأن الأمل يولد من رحم المعاناة، وأن الإنسان يمكن أن يظل حراً حتى خلف القضبان.
فداء بن عرفة