
ينسحبون… ونحن نعود ، عن غزة التي تهزم الف مرة وتنتصر في كل مرة ، بقلم : د. وليد العريض
في هذه اللوحة لا تحتاج الألوان إلى ترجمان. فكلّ ظلّ رماديّ فيها يعرف الطريق إلى بيتٍ غزّيٍّ تهدّم وعاد، إلى شارعٍ تكسّر ثم مشى عليه الأطفال حفاةً وهم يضحكون إلى امرأةٍ ترفع ثوبها الملطّخ بالرماد لتغسل وجهها بقطرة ماء نجت من القصف.
اللون هنا ليس صبغة، بل شهادة ميلاد جديدة للوطن.
ينسحبون… نعم بعد كل ضجيجٍ ودمٍ ودخانٍ ينسحبون.
ينسحبون لأنهم غرباء لا يعرفون شكل الضوء حين يخرج من جدارٍ مهدّم ولا رائحة الخبز حين يُخبز على رمادٍ صامد.
ينسحبون لأنهم خائفون من ذاكرة طفلٍ ينام بين الركام ويستيقظ على نشيدٍ لا يُنسى.
أما نحن فنعود. نعود بلا أوامر بلا بنادق، بلا ضماناتٍ من الأمم المتحدة بل بفطرة التراب الذي يشتاق إلينا كما نشتاق إليه.
غزّة تلك النقطة المضيئة في خريطة العجز العربي لا تنتظر أحدًا.
كل مرة تُقصف فيها تنهض من بين الرماد وتضحك تخلع ثوب الحداد وتلبس المطر.
والعالم الذي يصفّق للقاتل ويعزي المقتول
لا يدرك أنّنا لا نموت، بل نتمرّن على الخلود.
حتى حطام البيوت في هذه اللوحة لا يبدو ميتًا، بل يبتسم كأنّه يعرف أن أبناءه سيعودون غدًا ليبنوه بالحُلم.
أيّها الفنّان يا رفيق الروح
نحن لا نرسم اللوحات، بل نكتب التاريخ بألوانٍ لا تُغسل.
كلّ ضربة فرشاة منك هي رصاصة جمالٍ في وجه القبح الصهيوني
وكلّ كلمةٍ منّي هي نقطة دمٍ تكتب على الجدار:
العودة ليست وعدًا… بل عادة.
ينسحبون لأنهم تعبوا من الكذب
ونعود لأننا لا نعرف سواه.
ينسحبون لأنهم يكرهون الأرض
ونعود لأن الأرض أمّنا، ولأننا تعلمنا أن من يرضع من الطين لا يخاف الجوع ولا الموت.
هذه اللوحة ليست مجرد صرخة ضدّ الحرب، بل قصيدة ساخرة من جبن المحتلّ الذي يهرب من طفلةٍ تلوّح بحجرٍ أكبر من قلبه.
وكلّ مشهدٍ فيها من شقٍّ في الجدار إلى دمعةٍ على خدٍّ صغير
هو جزء من موسيقى العودة التي لا يقدر العالم على إسكاتها.
فلتقل للعالم أيّها الرسّام إنّنا لسنا ضحايا بل أبطالٌ في فيلمٍ طويلٍ عنوانه:
البقاء رغماً عن الجميع.
ولتقل لهم إنّ الدم لا يجفّ في غزّة… بل يتحوّل إلى زيتٍ يشعل قناديل الأمل.
نعم ينسحبون ونحن نعود
نعود إلى الجرح لنزرع فيه وردة
نعود إلى الرماد لنُخرج منه قمحًا
نعود لأنّنا لا نحسن الغياب
ولا نعرف من الأرض سوى أنها أقدس شكلٍ من أشكال العناق.
- د. وليد العريض – مؤرخ، أديب، شاعر، وكاتب صحفي