11:39 مساءً / 12 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

فاتورة الأجور تبتلع 73٪ من الميزانية الفلسطينية: التعليم المهني والتقني مخرج استراتيجي من الأزمة ، بقلم: الدكتور عماد سالم

فاتورة الأجور تبتلع 73٪ من الميزانية الفلسطينية: التعليم المهني والتقني مخرج استراتيجي من الأزمة ، بقلم: الدكتور عماد سالم

تعرض الصورة المرفقة مشهداً رقمياً صادماً:

291 ألف مستفيد من دفعات مالية حكومية شهرية تزيد على 1.06 مليار شيكل، بما يشمل موظفين مدنيين، عسكريين، متقاعدين، ومستفيدين من المخصصات الاجتماعية. هذه الأرقام تبتلع ما يقارب 73% من الإنفاق العام.

هذا الحجم الهائل من الاعتماد على الرواتب والمخصصات لا يمثل مجرد خلل مالي، بل يعكس اختلالاً بنيوياً عميقاً في بنية الاقتصاد الفلسطيني، وفي صميمه: (اقتصاد غير منتج، نظام تعليمي لا يولّد المهارات، سوق عمل لا يجد من يشغّل وظائفه التقنية، وشباب يحملون شهادات بلا مهارات، فيُدفعون دفعاً نحو الوظيفة الحكومية أو المخصص الاجتماعي.)

هذه المعطيات المالية كشفت عن مشهد مالي حرج: فاتورة الأجور تلتهم 73٪ من الموازنة العامة السنوية، لتتحول من بند وظيفي اعتيادي إلى عبء هيكلي يهدد قدرة الدولة على الوفاء بوظائفها الأساسية. تقدم هذه الورقة تحليلاً معمقاً للأزمة مع التركيز على التعليم والتدريب المهني والتقني كرافعة مركزية للحل، وتقديم توصيات عملية قابلة للتنفيذ في السياق الفلسطيني المعقد.

ليست الصورة مجرد إحصائية مالية؛ إنها مرآة لأزمة وطنية اقتصادية وتعليمية واجتماعية متشابكة، وبوابة لسؤال مركزي:

لماذا يعتمد الاقتصاد الفلسطيني على الرواتب أكثر من اعتماده على الإنتاج؟
وما العلاقة بين هذا الواقع وبين ضعف منظومة التعليم والتدريب المهني والتقني؟

مشهد مالي على حافة الهاوية

تُظهر الأرقام الرسمية أن السلطة الوطنية الفلسطينية تقف عند مفترق طرق وجودي. فاتورة أجور شهرية تبلغ 1.06 مليار شيكل، بإجمالي سنوي يتجاوز 13 مليار شيكل من أصل موازنة تقدر بنحو 18 ملياراً، ليست مجرد إحصائية مالية، بل هي مؤشر على أزمة نموذج اقتصادي كامل. الاعتماد شبه الكلي على القطاع العام كمصدر للدخل، في ظل اقتصاد محاصر وهشاشة القطاع الخاص، خلق معادلة مستحيلة: لا يمكن تقليص الرواتب التي تعتمد عليها مئات آلاف الأسر، ولا يمكن الاستمرار في تمويلها بهذا الشكل المستنزف.

قراءة في أرقام الكارثة: من هم الـ 291 ألف مستفيد؟

  1. الموظفون المدنيون (120,000): يمثلون أكبر شريحة، وهم نتاج سنوات من غياب البدائل الاقتصادية، حيث تحول القطاع العام إلى “ممتص” رئيسي للبطالة بدلاً من كونه مُقدماً للخدمات.
  2. الموظفون العسكريون (52,400): يُشكّلون ركناً أساسياً في منظومة الأمن والاستقرار، غير أن تغطية نفقاتهم، ولا سيما مع وجود قرابة نصفهم في قطاع غزة ضمن ظروف استثنائية، تفرض عبئاً مالياً إضافياً على الخزينة..
  3. المتقاعدون (62,000): فئة خدمت الدولة لسنوات طويلة وقدّمت إسهامات جوهرية في بناء مؤسساتها. والتزامات الدولة تجاههم هي حقوق مستحقة ومصانة قانونياً، إلا أن حجم هذه الالتزامات يضيف أعباءً مالية تتطلب إدارة دقيقة لضمان استدامتها.
  4. أشباه الرواتب (56,600): وتشمل ذوي الأسرى وأسر الشهداء والفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة. ورغم أن هذه الالتزامات تُجسّد البعد الوطني والبعد الإنساني للدولة، فإن أي محاولة لإعادة تنظيمها تصبح شديدة الحساسية سياسياً واجتماعياً.

وبذلك، فإن تعقيد المشهد المالي لا يرتبط بهذه الفئات ذات القيمة الوطنية والاجتماعية العالية، بل بقدرة النظام المالي على إدارة التزاماته الواسعة في ظل إيرادات متذبذبة واقتصاد يواجه قيوداً قاسية.

هذا الواقع يضع السلطة في مأزق ثلاثي الأبعاد: التزامات وطنية واجتماعية عميقة، إيرادات هشة ومعرضة للمصادرة، واقتصاد محاصر غير قادر على توليد فرص عمل بديلة.

التعليم والتدريب المهني والتقني: المخرج الاستراتيجي من الدائرة المغلقة

في قلب هذه الأزمة، يبرز التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) ليس كخيار ثانوي، بل كحل استراتيجي يحول الدائرة المغلقة إلى حلقة تنموية إيجابية. النظام التعليمي الحالي ينتج آلاف الخريجين الأكاديميين سنوياً نحو سوق عمل متعثرة، مما يزيد الضغط على القطاع العام كـ”ملاذ أخير” للتوظيف. إعادة توجيه السياسات نحو المهارات العملية والإنتاجية يمكن أن:

· تقلص فجوة المهارات بين مخرجات التعليم واحتياجات الاقتصاد الفعلية والمستقبلية.
· تحول الدعم الاجتماعي من استهلاك سلبي إلى استثمار منتج في رأس المال البشري.
· تخلق مسارات مهنية بديلة للشباب، تخفف الضغط الديموغرافي والاجتماعي عن باب الوظيفة الحكومية الوحيد.
· تبني اقتصاداً مقاوماً قادراً على تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي وتوليد إيرادات محلية حتى في ظل الحصار.

التوصيات العملية: خارطة طريق واقعية تركز على بناء القدرات

المحور الأول: تحويل التعليم المهني إلى قاطرة توظيف فورية

  1. إطلاق “البرنامج الوطني للتشغيل السريع عبر المهارات”: شراكة استراتيجية بين وزارة العمل واتحادات الغرف التجارية والصناعية. تحديد 10-15 مهنة ذات أولوية قصوى (فني طاقة شمسية، مساعد تمريض، مبرمج تطبيقات، فني تبريد وتكييف، مختص صيانة الهواتف). تمويل دورات تدريبية مكثفة (3-6 أشهر) مع ضمان توظيف 70% على الأقل من الخريجين في القطاع الخاص، عبر حوافز ضريبية للمشغلين.
  2. تحويل مؤسسات التعليم والتدريب المهني والتقني إلى “مراكز إنتاج وتدريب مجتمعية”: فتح ورش المدارس التقنية بعد الدوام لتصبح حاضنات للأعمال الصغيرة ومراكز تدريب للكبار مقابل رسوم رمزية. يمكن لهذه المراكز إنتاج وبيع منتجات (أثاث مدرسي، لوحات كهربائية، ملابس عمل) مما يدر دخلاً ويدرب على إدارة المشاريع.
  3. مبادرة “ابتعاث داخلي” للمعلمين والمدربين: إرسال معلمي ومدربي المواد المهنية لدورات تطوير في المصانع والشركات الرائدة محلياً وإقليمياً، لضمان مواكبة المناهج لأحدث المهارات المطلوبة.

المحور الثاني: ترشيد الإنفاق لتحرير الموارد للاستثمار في القدرات

  1. تجميد وتعويض” للتعيينات: وقف التعيينات الجديدة في الجهاز المدني (مع استثناءات قطاعي الصحة والتعليم بشقيه الاكاديمي والمهني،التقني)، وتوجيه المال المخصص لها إلى الصندوق الوطني للتعليم والتدريب المهني والتقني، يمكن للشباب المتقدمين على الوظائف الحكومية الحصول على منحة تدريب مهني عالي الجودة بدلاً من الانتظار في طوابير البطالة.
  2. برنامج “تحويل المخصصات إلى مهارات” لأبناء الشهداء والأسرى: تقديم خيار لأسر الشهداء والأسرى (للمستحقين الجدد أو الراغبين) لتحويل جزء من المخصصات الشهرية إلى “حساب تنمية مهارات” يمول التعليم التقني العالي أو التدريب المتقدم أو بدء مشروع صغير، مما يحول الدعم إلى استثمار في المستقبل.
  3. نظام رواتب موحد وشفاف: دمج سلاسل(سلم) الرواتب في قاعدة بيانات واحدة للقضاء على الهدر وترشيد الإنفاق، وإعادة توجيه جزء من المدخرات نحو تطوير البنية التحتية لمؤسسات التعليم والتدريب المهني والتقني.

المحور الثالث: بناء اقتصاد مقاوم قائم على المهارة

  1. تأسيس “حاضنات القطاعات المقاومة”: إنشاء حاضنات أعمال متخصصة في مجالات يمكن أن تزدهر رغم الحصار وتعزز الاكتفاء الذاتي، مثل: التكنولوجيا الزراعية (AgriTech) للزراعة الحافظة للموارد، تصنيع المواد البديلة للمستوردات الإسرائيلية، وصناعة المحتوى الرقمي والتطوير البرمجي التي تتخطى الحواجز المادية.
  2. شهادات مهنية فلسطينية معترف بها: تطوير وإطلاق إطار وطني للمؤهلات المهنية فلسطيني 100%، يعترف به محلياً ويتم الترويج له إقليمياً، لخلق مسار مهني معترف به لا يعتمد على الشهادات الأكاديمية التقليدية.
  3. شراكات تدريب عبر الحدود الافتراضية: التعاون مع مؤسسات تدريب مهني في الدول الصديقة (الأردن، مصر، تركيا) لتقديم دورات وشهادات عبر الإنترنت وتدريبات عملية مكثفة، لرفع مستوى المهارات دون الحاجة للتنقل.

المحور الرابع: حوكمة وتمويل ذكي للإصلاح

  1. فريق تفاوض اقتصادي-تعليمي: مهمته التفاوض مع المانحين والشركاء الدوليين لتحويل جزء كبير من المساعدات إلى منح وقطاعات مستهدفة للتعليم والتدريب التقني، وتسهيل استيراد معدات التدريب الحديثة رغم القيود.
  2. توثيق عوائق بناء القدرات: إصدار تقرير ربع سنوي يوثق كيف تعرقل إجراءات الاحتلال (منع إدخال معدات تدريب، تقييد حركة المدربين، إغلاق المعابر) عملية بناء القوى العاملة الماهرة، وتحويله إلى ورقة ضغط سياسية.
  3. مؤشرات نجاح تركز على المستقبل: قياس النجاح ليس فقط بخفض نسبة الإنفاق الجاري، بل بـ: نسبة الخريجين التقنيين الذين يجدون عملاً خلال 6 أشهر، حجم مبيعات منتجات مؤسسات التعليم والتدريب المهني والتقني من الورش التدريبية، عدد الشراكات الفاعلة بين مؤسسات TVET والقطاع الخاص.

وفي الختام يجب أن ننتقل من ثقافة الوظيفة إلى ثقافة الإنتاج

الأزمة المالية هي في جوهرها أزمة نموذج. النموذج الحالي يرى في المواطن مستفيداً يجب إدخاله في دورة الرواتب الحكومية. النموذج المطلوب يراه شريك إنتاج يجب تمكينه بالمهارات ليكون فاعلاً في الاقتصاد.

الاستثمار في التعليم والتدريب المهني والتقني هو الاستثمار الوحيد الذي يهاجم جذور الأزمة من ثلاثة اتجاهات في وقت واحد: يخفف الضغط المستقبلي على الموازنة، يبني اقتصاداً أكثر مرونة، ويحفظ كرامة الشباب عبر تمليكهم أدوات الاعتماد على الذات.
البديل عن هذه الرؤية الاستباقية هو الاستمرار في إدارة الانهيار، حيث تصبح فاتورة الأجور الثقيلة ليست ثمناً للاستقرار، بل قيداً يمنع أي إمكانية للبناء والتقدم. الخيار بين يدَي صناع القرار.

  • – الدكتور عماد سالم – خبير في التعليم والتدريب المهني والتقني وسياسات سوق العمل وسياسات التعليم

شاهد أيضاً

من يشوّه صورة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني – مستشفى الشهيد محمود الهمشري يحارب المرضى من أبناء شعبنا الفلسطيني

شفا – في ظلّ انتشار موجة من الأخبار المضلِّلة عبر مجموعات “الواتساب” ومنصّات التواصل الاجتماعي، …