
قراءة في مقال “السينما مرآة المجتمع” لسامية عرموش ، بقلم: رانية مرجية
حين تكتب سامية عرموش، فإنها لا تسرد تاريخًا جافًا، بل تستنهض الذاكرة الجمعية، وتحرك نبضًا دفينًا في جسد الأمة. ففي مقالها “السينما مرآة المجتمع”، تمسك الكاتبة بعدسة سينمائية تفتّح وعينا لا لمجرد المشاهدة، بل للرؤية – الرؤية الحقة لما وراء الشاشة، حيث تتقاطع مشاهد الفن مع جراح الواقع، وتتحول الكاميرا إلى شاهد عيان، والمخرجة إلى مشرّعة لا تقل شأناً عن الفقيه أو السياسي أو المشرّع.
منذ السطر الأول، تُشعل عرموش وهج الفكرة: أن السينما ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية، وبوصلة ضمير اجتماعي. وليست مصر، هنا، سوى نموذج لمجتمعات عربية كاملة وجدت في الشاشة الفضية صوتًا لما لم يُقال، ونَفَسًا لما لم يُتنفّس. المقال لا يَحتفي بالسينما لأجل السينما، بل يضعها في قلب معركة الكرامة والحقوق، معركة المرأة مع قوانين تمتهن روحها وتُحيلها إلى رقم في ملف شرعي.
“أريد حلاً”: فاتن حمامة تُشعل ثورة من رحم الألم
ما تفعله سامية عرموش في قراءتها لفيلم “أريد حلاً” يتجاوز السرد؛ إنها تكتب كما لو كانت درية نفسها، بطلة الفيلم، شاهدة على جيل بأكمله من النساء المستنزفات في دهاليز المحاكم. لا يمكن لأي قارئ أن يمر على وصف المحنة القانونية – التي تُعرض كأهوال بيروقراطية ممزوجة بإذلال يومي – دون أن يشعر بأن تلك “الدرية” تسكن أمه، أخته، نفسه.
هذا الفيلم – كما تصفه عرموش – ليس فقط نقطة تحول، بل مفصل وجودي في الوعي القانوني والنسوي. حين تصبح الكاميرا أداة لكشف القهر، ويصبح الأداء التمثيلي نداءً سياسيًا وإنسانيًا، فهنا لا تعود السينما فنًّا فقط، بل تصبح فعل مقاومة.
“آسفة أرفض الطلاق”: من صرخة شخصية إلى تشريع وطني
ثم تأتي “منى” – شخصية ميرفت أمين – لا لتتوسل الطلاق، بل لتقول: “أنا أرفض أن تُلغى حياتي بجرة قلم”. تصوغ عرموش هذا التوتر بين القبول المجتمعي لسلطة الذكر، ورفض الأنثى لطمس هويتها، في إطار وجودي. الفيلم كما تُحلله، لم يكن مجرد قصة عن “بيت الطاعة”، بل كان معولًا يهدم جدران الصمت.
ما تفعله سامية هنا هو استحضار ذكي لروح الرفض. هذا الفيلم – كما تشير – لم يحرّك القانون فقط بل حرك قناعات مجتمع بأسره، ليعيد النظر في مفاهيم مكرّسة عن السلطة الذكورية والمكانة الأسرية. وقد جاء نقدها مفعمًا بالأمل، دون أن يفقد حسّه بالمرارة المتأصلة في واقعٍ لا يزال يحتفظ ببعض “بيوت الطاعة” المعنوية في أرواح النساء.
“678”: الكاميرا التي صفعت المجتمع
هنا نصل إلى لحظة الذروة: فيلم “678”، حيث لا تعود الضحية صامتة، بل تصرخ، تواجه، وتطعن، إن لزم الأمر. لم تكتفِ سامية عرموش بأن تستعرض الفيلم، بل حاورت إشكاليته الفلسفية: هل يجوز للسينما أن تكون مباشرة لهذه الدرجة؟ هل فقدت شيئًا من فنّيتها حين تحوّلت إلى خطاب تحريضي واضح؟ والسؤال في مكانه، لكنها سرعان ما تعيد التوازن بتذكيرنا أن الوجع لا يحتمل المجاز أحيانًا، وأن أجساد النساء ليست استعارة، بل واقع يُنتهك كل يوم.
الكاتبة تُحسن، بحكمة نقدية وإنسانية، أن تتنقل بين جدلية “الفن من أجل الفن” و”الفن من أجل الحياة”، لتنحاز أخيرًا – لا بل بوضوح وشجاعة – إلى الفن الذي يُحرّك، يُشرّع، ويؤنّث الوعي.
أبعاد نفسية وجمالية عميقة
ما يميز هذا المقال – بعيدًا عن تفاصيله النقدية المحكمة – هو إحساسه العميق بالعدالة النفسية. سامية عرموش لا تتحدث فقط عن التغيير الخارجي، بل تُضيء معارك النفس، الانكسارات، المقاومة الداخلية، ذلك الانفصام الذي تعانيه المرأة حين يكون القانون ضدها، والمجتمع يلومها، والعائلة تخرسها، والموروث يقيدها، حتى تأتي السينما لتقول لها: “لستِ وحدك”.
جماليات المقال لا تكمن فقط في اللغة المتزنة والواضحة، بل في قدرة الكاتبة على تحويل كل مشهد إلى حالة وجدانية. إنها لا تُحلل الفيلم من الخارج، بل تغوص في داخله، وتخرج لنا بالجوهر، بالروح، بالصراخ الخافت في عيون البطلات.
في الختام: حين تصبح السينما وجدان أمة
تُنجز سامية عرموش في هذا المقال ما عجزت عنه كتب كثيرة عن “الفن والمجتمع”: إنها تقدم سردًا غير واعظ، بل صادقًا، عميقًا، محمولًا على أكتاف تجربة، وإحساس، وذكاء نقدي. المقال – برأيي – لا يقل أهمية عن الأفلام نفسها، لأنه يؤرشف للوعي النقدي النسوي العربي، ويُعلي من قيمة السينما كسلطة ناعمة تُقاوم، وتُشرّع، وتُغيّر.
وإن كان لي أن أختصر قراءة المقال في عبارة، لقلت:
هذا ليس مجرد نقد سينمائي، بل صلاةٌ للعدالة، تُقال بلغة الفن.