9:39 مساءً / 21 يوليو، 2025
آخر الاخبار

على ضفّتي الوجع ، حين تصير الحياة نفسها مشروع مقاومة ، بقلم : رانية مرجية

على ضفّتي الوجع ، حين تصير الحياة نفسها مشروع مقاومة ، بقلم : رانية مرجية

لا شيء أكثر وجعًا من أن تكتب عن غزة وأنت ترتجف من تفاصيل الموت لا من برد الشتاء أو قيظ الصيف، ولا شيء أكثر قسوة من أن تراقب الضفة وهي تسير حافيةً فوق جمر الذلّ، حيث تُقتلع البيوت من جذورها، ويُسحب الفجر من سماء القرى بأوامر عسكرية، وتُقيّد الأحلام بأصفاد الاحتلال.

لكننا، مع ذلك، نكتب.


نكتب لأن الكتابة ليست ترفًا عند الفلسطيني. إنها طقس يومي أشبه بالتنفس. فعل حياة في وجه ثقافة الموت. وصلاة صامتة لأرواح الأطفال الذين لم يتعلموا بعد كيف يكتبون أسماءهم، لكنهم باتوا يحفظون جيدًا شكل الطائرات، وصوت الانفجارات، ومرارة فقدان الآباء.

في هذا اليوم بالذات، تتقاطع المأساة بين غزة والضفة بشكل مفجع. غزة تختنق مجددًا تحت حمم القصف، ويُباد العطاشى عند بوابات المساعدات. هناك، حيث الماء حلم، والدواء أسطورة، والخبز أملٌ بعيد. حتى انتظار المساعدة بات حقل موت، وساحة رماية حية لضمير عالمي ميت.


وفي الضفة، يتربّص الجنود والمستوطنون بالأمل في كل مفرق طريق، ويحترفون اقتلاع الذاكرة من شجرة زيتون، أو دفن المستقبل تحت بلاطة زنزانة. لم تعد الاعتقالات مجرّد إجراء، بل طقس يومي، وفلسفة احتلالية تهدف لتكسير العمود الفقري لمجتمع بأكمله.

لكن، وعلى الرغم من كل هذا الخراب، ما زالت الأرواح تقاوم.


تقاوم بالصراخ، بالصمت، بالولادة، بالمشي، وبأبسط تفاصيل الحياة. امرأة تخرج من بيتها لتطعم قطّة جائعة في الخليل، هي مقاومة. أم تفتّش في ركام غزة عن صورة ابنها الشهيد، هي مقاومة.
طفل يحمل حقيبته في جنين ويذهب إلى مدرسة تهدّمت جدرانها بالأمس، هو درس في الصمود لا يُدرّس في الجامعات.

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد أخبار عابرة تُستهلك في نشرات المساء، بل اختبار أخلاقي حقيقي للعالم بأسره. لا يمكن الحديث عن قيم العدالة وحقوق الإنسان وكرامة الطفل، بينما يقتل أطفال غزة عطشًا أو برصاصة في الرأس وهم يتوسّلون الطعام. لا يجوز أن نظلّ نردّد: “هذا يحدث هناك” وكأننا في كوكبٍ آخر.

فلسطين، بكل جراحها، تعيد تعريف الوجود الإنساني.


هي ليست جغرافيا فقط، بل موقف. ليست وطنًا فقط، بل اختبار ضمير. إنها الندبة التي تذكّرنا أن الصمت ليس حيادًا بل خيانة، وأن الانشغال عن الألم مشاركة في صنعه.

ما نراه اليوم هو ذروة الانكشاف الأخلاقي للعالم، ولكنّه في المقابل ذروة البطولة الفلسطينية. نحن لسنا ضحايا ننتظر الشفقة، نحن بشر نقاتل من أجل الحياة، ضدّ مؤسسة موت متكاملة الأدوات.

ولذا، فإن كل بيت يُبنى رغم التهديد، كل طفل يُولد رغم القصف، كل قصيدة تُكتب رغم الحصار، كل صلاة تُرفع في كنيسة أو مسجد رغم الاقتحام، هي إعلان انتصار.


انتصار صغير، لكنه كافٍ لنستمر.

نحن لا نملك طائرات ولا دبابات، لكننا نملك إرادة لا يمكن لأعتى الجيوش أن تسحقها.
وما زال فينا متّسع للحب، للغناء، للحلم، للحنين، للحياة.

في النهاية، نحن الفلسطينيون لا ننتظر معجزة. نحن نصنعها.
بأيدينا، بدموعنا، بأقلامنا، وبأطفالنا الذين سيكبرون ليكتبوا تاريخًا آخر، لا عنوان له سوى:
“هنا… كانت الحياة أقوى من الموت.”

شاهد أيضاً

حسين الشيخ يستقبل وفدًا من رجال الدين المسيحيين من القدس لبحث تداعيات العدوان على المقدسات الدينية

حسين الشيخ يستقبل وفدًا من رجال الدين المسيحيين من القدس لبحث تداعيات العدوان على المقدسات الدينية

شفا – استقبل نائب الرئيس الفلسطيني السيد حسين الشيخ، وفدًا من رجال الدين المسيحيين من …