حيدر عبد الشافي ، حين سجّلت فلسطين أهدافها الأولى قبل أن تتعلم السياسة ، بقلم : المهندس غسان جابر

حيدر عبد الشافي… حين سجّلت فلسطين أهدافها الأولى قبل أن تتعلم السياسة ، بقلم: المهندس غسان جابر

في تاريخ الشعوب لحظات تتقدم فيها الرياضة على السياسة، وتتحول فيها كرة القدم إلى وعاء للهوية ومرآة لروح وطن يبحث عن ذاته. وفي فلسطين، لم تكن الكرة يومًا مجرد لعبة؛ بل كانت فعل إثبات وجود، ومجالًا مبكرًا وواسعًا للتعبير عن حيوية مجتمع لم يتوقف لحظة عن الركض نحو الحياة رغم كل العواصف.

البدايات… من القدس العاصمة إلى غزة

بدأت القصة عام 1908 في مدرسة الروضة في القدس، حيث تأسس أول فريق فلسطيني لكرة القدم. لم تكن الملاعب مجهزة، ولا الإعلام حاضرًا، لكن الشغف كان أكبر من كل الظروف. خلال عقود قليلة تشكلت أندية أصبحت لاحقًا معالم وطنية: الدجاني، الأرثوذكسي، إسلامي يافا، العربي الحيفاوي، ثم غزة الرياضي الذي حمل نبض الجنوب.

هذه الأندية لم تكن مجرد مؤسسات رياضية، بل فضاءات وعي يجتمع فيها الشباب ليعلنوا أن فلسطين حيّة، وأنها تحب وتتنافس وتنتصر كما تقاوم.

جيل لعب… وصنع الوعي الوطني

من رحم تلك الملاعب خرجت أسماء صنعت مجد الكرة الفلسطينية: جبر الزرقة، جورج مارديني، عبد الرحمن الهباب، جلال جرار… وغيرهم.

وفي قلب هذا الجيل برز اسم شاب من غزة سيصبح لاحقًا أحد حكماء فلسطين: الدكتور حيدر عبد الشافي.

قبل أن يصبح طبيبًا وطنيًا ورجل دولة، كان لاعب كرة قدم يعرف معنى الانضباط، اللعب النظيف، وروح الفريق. قيمٌ حملها معه عندما أسهم لاحقًا في تأسيس حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، الحركة التي رفعت شعار الوطنية النظيفة والإصلاح، ووضعت الإنسان الفلسطيني في مركز مشروعها.

اتحاد فلسطين… جذور أقدم من كثير من الدول

حين تأسس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عام 1928 في القدس، أصبح أول اتحاد كروي في آسيا، وشاركت فلسطين في تصفيات كأس العالم 1934، كأول منتخب عربي آسيوي يدخل هذا المسار.

كان ذلك إعلانًا واضحًا بأن فلسطين دولة مكتملة الملامح، لها رياضتها، مؤسساتها، وطموحاتها… قبل أن تسقط تحت وطأة النكبة.

بعد 1948… ضياع الملاعب وبقاء الروح

تشتت اللاعبون وضاعت الأندية، لكن اسم فلسطين عاد للواجهة في الإسكندرية عام 1953 ثم في القاهرة عام 1964، حيث بلغ المنتخب نصف النهائي.

إنه إنجاز لشعب بلا دولة، بلا إمكانات، لكنه يمتلك إرادة أكبر من كل الظروف.

نهضة حديثة… وانتقال من البقاء إلى المنافسة

منذ عام 1998، ومع عودة الاتحاد الفلسطيني إلى عضوية “فيفا”، دخلت الكرة الفلسطينية مرحلة جديدة: دوري المحترفين، بنية تحتية، أكاديميات، وازدهار لافت لكرة القدم النسائية.

ثم جاءت الإنجازات الكبرى:

التأهل إلى كأس آسيا ثلاث مرات متتالية

الوصول إلى دور الـ16 لأول مرة في 2023

الصعود إلى مرحلة متقدمة من تصفيات كأس العالم

تتويج منتخب الشابات ببطولة غرب آسيا 2025

هذه النجاحات لم تكن رياضية فقط، بل كانت صمودًا وطنيًا في وجه واقع معقد.

الرياضة تحت النار

في الحرب الأخيرة على غزة، استشهد مئات الرياضيين ودُمرت مئات المنشآت الرياضية.
ومع ذلك، ظل الصوت الفلسطيني واضحًا: سنعود إلى الملعب.
فالرياضة في فلسطين ليست ترفًا… بل جزء من بنية الحياة اليومية.

السعودية وفلسطين… مباراة تتجاوز حدود الملعب

مع اقتراب اللقاء المرتقب بين المنتخب السعودي والمنتخب الفلسطيني، يبدو المشهد أبعد من مجرد مباراة رسمية.
إنه لقاء يجسد تاريخًا ممتدًا من الأخوّة والدعم المتبادل، وتعبيرًا صادقًا عن عمق العلاقات بين الشعبين.

في كل مواجهة بين الفريقين، يظهر المشهد ذاته:

الجماهير السعودية تهتف لفلسطين بعفوية ومحبة، والجماهير الفلسطينية ترد التحية بمثلها وأكثر.
المدرجات تتحول إلى لوحة واحدة، تختلط فيها الإعلام السعودية و الفلسطينية، وتلتقي فيها المشاعر قبل الأصوات.

هذه المباراة، كما في كل مناسبة مماثلة، ليست صراع من أجل فوز أو نقاط
بل تأكيد على أن الرياضة قادرة على جمع ما تفرقه السياسة، وأن فلسطين والسعودية شعبان يلتقيان على أرضية واحدة. حتى لو اختلف لون القميص.

نقول: تاريخ الكرة الفلسطينية ليس سردًا رياضيًا فحسب، بل هو فصل من فصول النضال الوطني. ومن مدرسة الروضة إلى ملاعب آسيا، ومن جيل الرواد إلى جيل اليوم، يثبت الفلسطينيون أن الرياضة مساحة أمل لا يمكن محوها.

وفي قلب هذه المسيرة يبقى اسم حيدر عبد الشافي شاهدًا على زمنٍ صاغت فيه الرياضة رجالًا حملوا قيمها إلى ساحات الوطن.

ومع المباراة المقبلة بين السعودية وفلسطين، يتجسد هذا التاريخ من جديد…
تاريخ تقول فيه الشعوب لبعضها:

إننا أقرب مما نعتقد، وأن الرياضة ليست منافسة فقط… بل جسر محبة لا يُهدم.

• – م. غسان جابر – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.