
ما ضاع وطن يقوده أبناؤه : قراءة في التاريخ الفلسطيني وواقعه الدبلوماسي الراهن ، بقلم : الدكتور المهندس شوقي جرادات
منذ قرن وأكثر، كانت فلسطين مختبر التاريخ العربي ومرآته الصادقة. فكل تحول مر بالأمة، كانت فلسطين قلبه النابض وجرحه النازف. فمنذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917، الذي منح من لا يملك أرضا لمن لا يستحق، وحتى اللحظة الراهنة، ظلت فلسطين تختصر حكاية أمة ما زالت تبحث عن ذاتها بين ركام المؤامرات والتحالفات العابرة.
كانت النكبة عام 1948 لحظة التهشيم الكبرى، إذ اقتلع أكثر من 800 ألف فلسطيني من أرضهم وهدمت أكثر من 500 قرية، ليولد بذلك أكبر ملف لجوء في التاريخ الحديث. ومع نكسة 1967، سقط ما تبقى من الجغرافيا الفلسطينية تحت الاحتلال، لكن الشعب لم يسقط. من بين رماد النكسة ومرارة الشتات، ولدت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 لتكون الكيان الجامع والهوية السياسية للشعب الفلسطيني، حاملة مشروع التحرير والعودة والكرامة. وشكلت المنظمة منذ لحظتها الأولى إعلان ولادة الهوية الوطنية الحديثة، ومثلت الإطار الشرعي والوحيد للحق الفلسطيني وكينونته في وجه محاولات الطمس والتذويب التي ما زالت تمارس بحقنا حتى اللحظة.
ومع التحول التاريخي حين اعترف بالمنظمة في القمة العربية بالرباط عام 1974 كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، كانت تلك لحظة تتويج سياسي للنضال المسلح، وتحولا نوعيا في الخطاب العربي والدولي. وفي العام ذاته، اعتلت فلسطين منبر الأمم المتحدة، وهناك وقف ياسر عرفات حاملا غصن الزيتون والبندقية، قائلا عبارته الخالدة:
”لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي“
كانت تلك الجملة إعلانا لبداية مرحلة جديدة، إذ انتقلت ميادين المقاومة سويا الى ميادين الدبلوماسية، وتحول صوت الرصاص إلى صوت العالم ورسم معادلة جديدة للعالم عبر فيها الفلسطيني عن كفاحه من أجل الحياة لا الفناء، وانه شعب يناضل لا ليمحى، بل ليسمع صوته ويتعرف بحقه وعن حقه التام في الوجود لا في النسيان.
وعلى مدار العقود التالية، خاضت المنظمة معارك سياسية شاقة وتحديات عميقة رغم متانتها التاريخية، من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 إلى اتفاقيات أوسلو عام 1993 التي أنشأت السلطة الوطنية الفلسطينية كأول كيان إداري على الأرض منذ الاحتلال. غير أن أوسلو، رغم أنها منحت اعترافا متبادلا بين الطرفين، فتحت أيضا بابا واسعا للتأويلات والخيبات، إذ تحولت من ”مرحلة انتقالية“ إلى واقع دائم من السيطرة الإسرائيلية والتجزئة الجغرافية.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، عادت روح المقاومة، لكن بعد رحيل اب الشعب الفلسطيني القائد ياسر عرفات تفاقمت الأمور سريعا، وانفجرت حالة الانقسام الداخلي بين شطري الوطن، لتبدأ مرحلة مؤلمة وقاسمة من التمزق في النسيج الوطني وهذا ما أثر بشكل كبير عل الموقف الوطني وأفقده كثيرا من زخمه ومصداقيته أمام العالم وكان بمثابة طبق من ذهب وهدية مجانية للمحتل للكيان حتى تبقى سرديته هي السائدة واستغل المحتل هذا الشرخ لتوسيع الاستيطان وتهويد القدس وتقويض أي أفق سياسي ممكن.
وفي ظل ما سمي ب “الربيع العربي” او لنسمه ب “الخريف العربي”، غرق الجميع في إدارة أزماته الداخلية، وزاد الأمر خطورة حين تراجعت أولويات بعض الدول العربية تجاه فلسطين وبوصلتها التاريخية، وهرولت نحو التطبيع دون أي ثمن سياسي حقيقي. كان ذلك تحولا صادما ومعادلة خطيرة مست بقدسية القضية الفلسطينية ومكانتها في الوجدان العربي والإسلامي، بل والعالمي أيضا. واستغل الاحتلال هذا الانشغال العربي ليكرس وجوده الإقليمي عبر تلك الاتفاقيات، مدعوما بمساندة مطلقة من الولايات المتحدة الأمريكية، بلغت ذروتها في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشريف عام 2018، في لحظة بدت وكأن فلسطين أدخلت عمدا في عالم النسيان، وكأنها صفحة طويت من التاريخ.
وفي خضم هذا المشهد القاتم والمظلم جدا، تحولت القضية الفلسطينية في كثير من الخطابات الدولية إلى ملف إنساني بحت يختزل في بعضا من المساعدات والإصلاحات والبيانات، بدل أن تبقى قضية سياسيةً تحررية جوهرها العدالة والسيادة والاعتراف الفعلي بالدولة الفلسطينية. أضف إلى ذلك محاولات الاحتلال المستمرة لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية، ودفع ملف القضية إلى هامش الذاكرة الدولية، في محاولة لترسيخ فرضية ”الأمر الواقع“ كحقيقة دائمة لا تناقش، دون حتى عناء البحث عن شركاء او عن سلام حقيقي. بل أراد المحتل اكثر من ذلك تدمير المشروع الوطني الفلسطيني من جذوره واجتثاث الحلم من الوجود.
لكن الأيام دارت، وجاء السابع من أكتوبر 2023 ليقلب المشهد رأسا على عقب وبمثابة زلزال سياسي وتاريخي وضع فلسطين في مواجهة مباشرة مع النظام الدولي، وأعاد البوصلة إلى مكانها الصحيح حيث الجذور الأصلية للقضية ، وإن كانت بثمن باهظ من الدماء والدمار والإبادة. ورغم كل الشعارات الدولية الزائفة، وقفت فلسطين لتبرهن للعالم أن النظام العالمي ما زال خاضعا لمعادلات القوة لا للعدالة.
غير أن هذه المأساة المروعة والابادة الجماعية الممنهجة أيقظت الوعي الشعبي العالمي من جديد، فملايين البشر خرجوا في العواصم الغربية والعربية يهتفون باسم فلسطين، لتؤكد أن الرواية الفلسطينية ما زالت قادرة على تحريك الضمير الإنساني. وشهدنا مشاهد غير مسبوقة من التضامن والتعاطف على مختلف المستويات، كانت كفيلة بأن تعيد رسم طبيعة المعادلة، وتثبت أن الحق مهما حوصر، لا يموت ما دام هناك من يصدح باسمه.
مع ذلك، يبقى هذا الوعي العالمي والالتفاف نحو القضية الفلسطينية بحاجة إلى إطار سياسي موحد يترجمه إلى فعل دبلوماسي حقيقي، فالعالم لن يصغي الى الأصوات المتفرقة مهما كانت صادقة. من هنا، تبرز الحاجة الملحة إلى عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الواجهة، كضرورة وطنية للبقاء، وكبيت جامع للفصائل الفلسطينية كافة، يعيد قيادة المسيرة نحو لغة الحق القانوني والسيادي.
فبعد حصول فلسطين على صفة ”دولة مراقب غير عضو“ في الأمم المتحدة عام 2012، أصبح لديها مكانة قانونية راسخة يمكن البناء عليها في ملاحقة الاحتلال أمام المحاكم الدولية وما حصل مؤخرا من الاعترافات الدبلوماسية والسياسية المتتالية بفلسطين كدولة في اروقة الامم المتحدة يجعل التحديات مضاعفة امام الدبلوماسية الفلسطينية وتجعل الكل الفلسطيني بحاجة الى نفس جديد ووجود قيادة موحدة تمتلك قرارها الوطني المستقل، وتتبنى خطابا واقعيا متوازنا يجمع بين الثوابت التاريخية والأدوات القانونية المعاصرة، للمضي بثقة نحو مجلس الأمن والجمعية العامة لتثبيت كافة الحقوق السياسية والسيادية للشعب الفلسطيني على أرضه.
فالاحتلال يدرك أن كسب الرواية هو نصف الانتصار، وأن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الوعي والذاكرة،
وهنا يجب أن يكون الخطاب الفلسطيني عصريا قويا، يخاطب العالم بلغته القانونية والإنسانية، دون التفريط بجذوره التاريخية أو رموزه الثابتة، وان يعي الكل ان الدبلوماسية الفلسطينية ليست نقيضا للمقاومة بل وجهها الأخر (غصن زيتون وبندقية) وان تكون لغة الخطاب الفلسطيني مزيجا من الذاكرة والواقعية، ذاكرة النكبة والانتفاضة والمجازر والشتات وواقعية العالم الجديد الذي لا يسمع الا لغة المصالح والاتفاقيات.
ما بين الثورة والانتفاضة والدبلوماسية، لم تفقد فلسطين جوهرها. فكل جيل أعاد إنتاج النضال بوسائله الخاصة، وكل محنة كانت بابا لمرحلة جديدة من الوعي والتمسك بالحق، ونحن اليوم بحاجة ان نعود الى انفسنا، الى بيتنا الأول (بيت منظمة التحرير الفلسطينية) لتعيد للعالم صوتها الحقيقي وصورتها الجامعة، فالعالم قد يتغير لكن يبقى الشي الثابت الوحيد هو ما كان يردده الشهيد ياسر عرفات:
ما ضاع وطن وراءه مطالب
وما ضاع وطن يقوده أبناؤه
وفي الختام،
ما تاهت قضية حين نطقت باسمها الحقيقة، حقيقة فلسطين الثابتة في الوجدان والضمير.
- – د. م. شوقي ثلجي الجرادات
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .