7:59 مساءً / 17 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

قليل من صنعاء القديمة ، لمن لا يعرف المدينة ، بقلم : مصطفى عبدالملك الصميدي

قليل من صنعاء القديمة ، لمن لا يعرف المدينة ، بقلم : مصطفى عبدالملك الصميدي

قليل من صنعاء القديمة: لمن لا يعرف المدينة ، بقلم : مصطفى عبدالملك الصميدي

هي صنعاء القديمة، مدينة التاريخ والإنسان والمكان. من يعبر أزِقَّتها ويلمس بنايتها، يجد التاريخ هواءً يُتَنفَّس في أرجائها، يجد “سام بن نوح” منقوشاً على كل حجر، يجد العمارة رسماً مُبهِراً لأول ما شُيِّد على كوكب الأرض منذ الطوفان.

وأنتَ تمُرُّ في أزقتها، يهمس لك الزمان أنّ الله بدأ برفع السماء من هنا، ليس مجازاً بأن مباني المدينة ناطحات سحاب، بل لأن التاريخ العريق حمل على أكتافه مهابةَ التراب منذ الأزل، إذ كان ترابها المدرسة التي أخرجتْ من جوفها أولَ فنّ هندسي معماري، بدايةً من العمارة الطينية مروراً إلى قرميدها الأحمر. وبين هذا وذاك، ما يجعلك تقف مذهولا، كأنما حين تمرُّ بها يجِيئُكَ التأمل ماشِياً على قدميه، رافعاً بيدهِ مِرآة الحضارة لتعكس لك أُلْبُوم المطر أولا. بعدها، يُداهِمُكَ السؤال الكبير فجأةً: كيف للعمارةِ ألاَّ تذوب عائِدةً إلى سيرتها الأولى من أمطار القرون؟! لِتُجيب، تَحسَّس بيديك جِدارها؛ لِترى أنّ قانون الصَّلابة صِيغَ من صِلْصَالِها، وتعجَّبُ مِن هشاشتكَ رغم نشأتك الأولى نفسها.

وأنت تمر بها، اِرفع ناظريك إلى “الطيرمانات”، لِترتئي مشرق الشمس في زجاجها، حتى ولو كنت تسري مساءً في أزقتها، كأنما الشمس تخبرك أنها لا تغيب عن وجه المدينة كإنسانها الأصيل. ولا يقف جمال ما تراه من لوحة سريالية هناك، بل ينعكس هلالُ المدينة مُعانِقاً شمسها؛ لتُنبِئكَ عن رحابةِ صدر ابنها حين يُعانق الغريب بحسن الضيافة والكرم. حينها تعود إلى نفسك بدرسٍ أخلاقي بديع، يَشْرَئِبُّ في حشاك نوراً يريك معنى الحضارات، يقودك إلى سطور تاريخٍ حافل بتمازج الإنسان والجمال، ومن ورائهما خلود التراب الذي يمسك بتلافيفها.

ليس للمدينة العتيقة خريف طبيعي، بل يكاد خريفها أن يكون دهشةً تتساقط بانعكاس أنوارها المتحركة على قرميدها الأحمر. ثمة ما تراه من أضواء أسواقها العتيقة، تتآلف مع بعضها، لِتُخرِج للعابرين سطوع نفائسها وأحجارها الكريمة، من فضة وذهب، وتحفٍ تاريخية، وعقيق يماني، وجنابي حِميرية، وأعسبةٍ مُحاكةً بخيوط أشِعة الشمس الأولى. ثمَّة ما تراه من قناديل أعراسٍ مُعلقة بين حين وآخر؛ أعراس ليس كمثلها في تقاليد الحضارات. أمرر بها واصغِ لِضرب الدفوف ينساب في أذنيك بأصوات فريدة لم يسبق لك أن سمعتها من قبل، كما لو أن الأرض فتحتْ لك من قليل جبينها عالماً خالداً يُبعدك عن اندثار التقاليد. وأنت تنظر إلى برع الرِّجال كالجند في المعارك، تهتز معهم دون شعور حتى وإن كنت مُصاباً بالصمم، تحس أن توليفة الإبداع تلك تركض مرحاً داخلك، وذلك التناسق المدروس في الحركات يطير في خيالك كسرب هداهدٍ يرفرف فوق حقول الكرم والزبيب. كل ما تراه يثير مشاعرك، حتى ولو كنت وافداً جديداً أو سائحاً أجنبياً لا عِلم لك بالتقاليد والتراث. ثمة شيء مدهشٌ يُجبرك على الوقوف حتى وإن كنت عائدا من مشفى، أو مُتصببا عرقاً بعد يومٍ حافلٍ بأشغال الحجر والطين. تخرج من مشهد الأعراس عائِداً من حيث جِئت، لِيظل شيء في نبضك راقصاً طوال الطريق، أسنانك نفسها من يُعيد ضرب الدفوف، إيمائة رأسك الخفيفة ويدك اليمنى البهلوانية من يعيد مشهد الرقص والإمساك بخنجر من خيال. هكذا يبدو جمال التقاليد، ذو نكهة استثنائية تنغرس في القلوب دون وعي، وإن لم تسقط أرواح العابرين على سِحر المشاهد.

وأنت تعبر بين الأزقة عائِداً من عملٍ أو تسوق أو نزهة، يفاجئك أذان المغرب من “الجامع الكبير” بمقامه الصنعاني الجميل، صادحاً في الأفق البعيد، منبثقاً بين البِنايات؛ فتتسَمَّر خُطاك في اللحظات الأولى كما لو أن السماء عينها أَمَرَتْك أنْ تقف كمِئذنتهِ، لِتُرجِعَ لك الصدى الرخيم إنْ كُنتَ مُقصِّراً في أداء الفرائض. حينها يتفتح الجدار في صدرك كزهرةِ خُزامى، ليِّنةً تفوح عبيراً روحانياً في مداك، ثم تستأنف السير نحوهُ، كأنك أخلَصتْ إنابتك إلى الله بعد طيش وتِيه. أما إذا حالفك الحظ أن تمر بها في شهر رمضان الكريم، فطوبى لروحك الطمأنينة والسلام. وأنت تصغي قُبيل الفطور إلى تلاوة “محمد حسين عامر”، أو “القريطي” أو “الحليلي”، تشعر أن تلك التي تجري من تحتها الأنهار تُربت الآن على روحك كما تربت الأم على ناصيةِ ولِيدها، تحس وكأن الدنيا عطسَتْك إلى الوجود على مهدٍ قَطِيفَهُ مِن رَفرَفٍ خُضْرٍ وعبْقَرِيٍّ حِسَان، بريئاً لم تمسَّه أوساخ الحياة وهمومها. وأنت تصغي لتلاوةِ أحدهم العطرة، ينتابك الشعور أنَّ هناك صائغاً للعطور يُرشرش الأجواء من داخلك.

إذا ما هممت بزيارتها، أول من يستقبلك عند مدخلها الباعة المتجولين. إن كان الشتاء قارساً، لن يكلفك الامر سوى قروش قليلة لشراء جاكيت أو كوت للدفء. وعلى مقربةٍ، بائع شاي مشهور بجودة الشراب، يكفي أن تصغي لتعليق أحدهم بعد الاحتساء: “كوب مُسكر حقاً”. تواصل السير لترى هنالك دكاكين معلقة على الجدران، دكاكين الزبيب واللوز والفستق الصنعاني، لتدرك أن المدينة لا تودعك، بل تمشي معك حتى آخر الزّقاق.

كل مربع في صنعاء القديمة له رائحة مستساغة، وأنت تمر في صباح باكر، تفوح رائحة “الكباب” بين الأزقة كأنها إكسير حياة، تفتح شهيتك لتناول وجبة أخرى حتى وإن تناولت عجلاً قبيل لحظات. إذا ما صادفت عابراً إلى محل الكباب، كثيراً ما يخبرك أنه ذاهب إليه؛ لشراء وجبة لأبيه المريض، كونه لا يستسيغ أي طعام سواه. كذلك رائحة البُن اليمني، تُسكرك بنكهتها الأصيلة، إذ تُعيد إليك حقول الأولين وشهرة الزمن المنصرم، فتؤمن بعد أن شككت بقول من رحلوا: “أفضل بن في العالم البن اليمني.” أما رائحة البخور، يا لها! يالرائحته حين تعلق على ملابسك، على جسدك، وحنجرتك على مدى أيام، فتشعر أن جزءا من صنعاء القديمة يمتزج الآن في خيوط ثوبك، في شعرك، وكثيراً، كثيراً على شاربك!

هكذا لصنعاء القديمة سحرٌ ليس كمثله سوى الربيع والمطر. وهكذا تبدو في عين من يعشقها: ليست أثراً تاريخياً جامداً، بل كائناً حياً يتنفس بالعمارة، ويتكلم بالصوت، ويتجسد في الرائحة، ويقيم في القلب. من يعرفها لا يمرّ بها عابراً، ومن لا يعرفها، تكفيه خطوة واحدة في أزقتها ليدرك أن الحضارة ليستْ ما يُبنى بالطين والقرميد وحده، بل ما يُحفظ بالإنسان.
مصطفى عبدالملك الصميدي – اليمن

شاهد أيضاً

محافظ بيت لحم يترأس اجتماعًا حول قانون الانتخابات المحلية وآلياتها

محافظ بيت لحم يترأس اجتماعًا حول قانون الانتخابات المحلية وآلياتها

شفا – ترأس محافظ محافظة بيت لحم، محمد طه أبو عليا، اليوم الأربعاء 17/12/2025، اجتماعًا …