
الكلمة الخالدة: العربية في يومها العالمي ، بقلم : غدير حميدان الزبون
في يوم اللغة العربية العالمي، تقف الكلمات صامتة، لكنها تحمل صرخات الحِكمة والمعنى عبر قرونٍ من الجذر إلى العصر الحديث، فهي سردية البقاء، و حجّة الهوية، و أفق المستقبل.
فكل حرف فيها يروي قصة صراع الإنسان مع الزمن، وكل جذر فيها ينبض بقدرةٍ على التجدد لا تعرف حدودًا.
هذا المقال يسعى لفتح نافذة على سرّ استمرارية اللغة العربية، وعلى قدرتها العجيبة في مواجهة التحديات، وعلى دورها الحيوي في تشكيل الفكر والهوية والإبداع. فهو محاولة لفهم لغة صاغت الإنسان قبل أن يُصاغ بها، وربّت العقل قبل أن يُحمل، وكانت شاهدة على أعظم التحولات الحضارية والمعرفية.
بين صفحات هذا المقال، نقرأ العربية كلغة جذور لا قشرة، وكلغة علم ومعرفة، وكلغة حجاج وفكر، وكلغة تحمل ذاكرة جماعية وتراثًا حيًا.
وفي اليوم العالمي للغة العربية، نعيد التأكيد على أنّ الدفاع عن هذه اللغة ليس حنينًا للماضي، بل استثمارٌ حضاري للمستقبل.
تمهيد:
في يوم اللغة العربية العالمي، لا تكتفي اللغة بأن تُذكَر، بل تطالب بأن تُفهَم. فاللغة هي الإطار الذي يتشكّل داخله الوعي، والرؤية، والمصير.
واليوم حين نتأمّل العربية، لا نعيد قراءة نصوص الماضي فحسب، بل نستلهمها لبناء رؤية مستقبلية للغة لا تنهزم أمام تيارات التغيير، ولا تتردّد أمام تحديات العصر.
تجد اللغة العربية في نفسها خصائص بنيوية وتاريخية ومعرفية تجعلها قادرة على الاستمرار والتجدد، بما يفوق كثيرًا من اللغات الحيّة.
وما يُسمّى “أزمة العربية” لا يعكس عجزًا لغويًا، بل يظهر أزمات في السياسات التعليمية والإعلامية والمعرفية تجاهها.
أولًا العربية بين بنيتها ودورها الحضاري
1 – العربية: بنية جذريّة اشتقاقية
خصّ العلماء العربية بأنها لغة جذور لا تكسوات، لغة لا تُقرأ الكلمات فيها منعزلة عن أصلها الدلالي. فالنظام الاشتقاقي في العربية يمنح الكلمة طاقة حيوية لتوليد معانٍ متعددة من جذر واحد، وهو ما يوفّر غنى لغويًّا واسعًا وفهمًا أدقّ لمعنى الكلمة في سياقات متعددة.
يرى ابن جني أن «أكثر كلام العرب إنما هو تصرّف في أصل واحد» وهذا يدلّ على قدرة اللغة على التوسّع الدلالي دون الإخلال بجوهر المعنى.¹
هذه الخاصية لا تُثري البلاغة فحسب، بل تمنح اللغة قدرةً فائقة على إنتاج المصطلحات العلمية والفكرية دون الاقتصار على الاقتراض من لغات أخرى.
2 – العربية قبل التدوين: نضجٌ لغويٌّ كامل
على خلاف كثير من اللغات التي نمت بتأثير الكتابة، دخلت العربية عصر التدوين وقد امتلكت نظامًا لغويًا متكاملًا قائمًا على قواعد صارمة في النحو والصرف والبلاغة.
يشير تمام حسان إلى أن العربية «دخلت عصر التدوين وهي تحمل نظامًا لغويًا متكاملًا لم يُنشأ اصطناعًا»، ما يدلّ على نضج اللغة قبل تدوينها.
لقد بُني عليها فنون الأدب والبلاغة قبل أن تكتسب أدواتها النظرية المكتوبة، ما يفسّر اتساع بنيتها وقدرتها على التعبير عن أدق التجارب الإنسانية.
ثانيًا العربية لغة العلم والمعرفة
1- العربية في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية
امتدّ دور العربية في التاريخ إلى ما هو أبعد من الشعر والنثر، إلى أن أصبحت لغة العلم العالمية في العصور الوسطى، حاملةً للمعارف في الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة.
كتب ابن سينا في الطب، وتوسّع الرازي في الكيمياء، ونشرت النصوص الفلكية للبتّاني، وبلّغ الخوارزمي العالم أنظمة الحساب وجبر المعادلات باسمه.
وقد أكد جورج سارتون في موسوعته أن العربية كانت «لغة العلم العالمية لعدة قرون» خلال العصور الوسطى، ما جعل من بغداد وقرطبة وأشبيلية مناراتٍ للعلم.³
ولم تقتصر العربية على استيعاب التراث القديم، بل أعادت تشكيله، وأضافت عليه، ثم نقلته — عبر الترجمة — إلى أوروبا، ممهدة بذلك لنهضةٍ علمية لاحقة.
2 – حركة الترجمة ودور العربية كجسر معرفي
لم تكن العربية متلقّية فحسب، بل كانت وسيطًا لإعادة إنتاج المعرفة ونقلها. فقد تُرجِمت إلى العربية مؤلفات اليونان والرومان، وأُعيد بناء هذه المعارف ضمن بنى لغوية ومفاهيمية عربية، قبل أن تُترجَم فيما بعد إلى اللغات الأوروبية.
يشير الباحث إيمانويل فوتر إلى أن التراث العلمي العربي كان “جسرًا بين فلاسفة اليونان والعلم الحديث في أوروبا، ممّا يعكس قدرة اللغة على احتضان الألوان الفكرية المتعددة”.⁴
بهذا، تظهر العربية كلغة قادرة على التوسّع المعرفي، لا كمنصة تكرار، بل كمحرّك إنتاج معرفي فعال.
ثالثًا الاتهامات الموجّهة إلى العربية – قراءة نقدية
1- دعوى الصعوبة: الحقيقة والموهوم
ينتشر في بعض الخطابات المعاصرة أن اللغة العربية “صعبة”، وأن قواعدها الإعرابية تعيق تعلمها. لكن الحقيقة أن الصعوبة التي تُنسب إلى اللغة غالبًا ما تكون نتيجة لطرق تعليم تقليدية تُبعد المتعلّم عن طبيعة اللغة الحيوية.
يؤكد عبد السلام المسدي أن «تعقيد العربية ناتج عن طرائق تدريسها لا عن بنيتها»، ما يشير إلى أن المشكلة ليست لغوية بقدر ما هي منهجية تعليمية.⁵
الصعوبة الحقيقية تكمن في الفراغ بين المتعلّم واللغة، لا في اللغة ذاتها.
2 – دعوى عدم صلاحية العربية للعلوم
يُقال إن العربية “غير صالحة” للعلوم الحديثة، وهو ادّعاء يتجاهل التجربة التاريخية ومقدرة اللغة على التطوّر. فالعربية ليست ثابتة جامدة، بل تطوّرت استجابة لاحتياجات مجتمعاتها التاريخية والمعرفية.
هذه القدرة على التجاوب مع الجديد، وإن لم تُفعّل بشكل منهجي في العصر الحديث، لا يعني انعدام الإمكان.
رابعًا العربية والهوية الثقافية
1- اللغة بوصفها قالب تفكير
اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل قالبٌ يُشكّل التفكير. يرى اللغوي إدوارد سابير أن اللغة ليست أداة تعبير فحسب، بل هي التي تشكّل منظور الإنسان إلى العالم.
يقول سابير: اللغة هي الجزء الأساسي الذي نستخدمه في فهم الواقع وإعادة بنائه.
وعليه، فإن تهميش العربية لا يؤثر فقط على مهارات التعبير، بل يهز بنية الوعي نفسها.
2 – الثنائية اللغوية وأثرها في السياق المعاصر
تعاني العديد من المجتمعات العربية من ازدواجية لغوية تمكّن لغات أخرى من احتلال منصات المعرفة، ما يؤدي إلى تراجع العربية في التعليم العالي والإنتاج العلمي.
إن ضعف التمثيل العلمي والعام للعربية لا يدلّ على عاجزية اللغة، بل على تراجع السياسات التعليمية والبحثية.
خامسًا العربية والحداثة: سوء فهم يصنع النزاع
1 – الحداثة ليست لغة بذاتها
الحداثة ليست محصورة في لغة معيّنة، بل هي منهج معرفي يمكن أن يستوعب أدوات متعددة. وقد نجحت لغات كاليابانية والكورية في التحديث دون التفريط في هويتها اللغوية.
إن التناقض المفترض بين العربية والحداثة ليس ناتجًا عن اللغة ذاتها، بل عن تصور ضيّق للحداثة يربطها بلغةٍ معينة أو بثقافة واحدة.
2 – تحديث العربية: من الإمكان إلى الفعل
تحديث العربية يتطلب:
تعريب العلوم الحديثة
إنتاج مصطلح علمي معاصر
تمكين العربية في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
إعادة بناء المناهج بطريقة تَربط اللغة بالواقع المعرفي
هذا لا يعني تفكيك العربية من جذورها، بل تأصيلها في آفاق جديدة.
سادسًا العربية لغة الحجاج والعقلانية
البلاغة العربية لم تنفصل عن المنطق، بل كانت منطلقًا للفكر الحجاجي. ففي التراث العربي تجارب في المناظرة والمنطق، وأصولٌ للحجاج تُظهر قدرة اللغة على التعبير عن الشكل الدقيق للحجة والأثر.
يرى محمد عابد الجابري أن «العقل العربي عقل بياني برهاني في آن»، وهو ما يجمع بين الإيقاع الدلالي والدقة الحجاجية.⁷
العربية إذًا ليست لغة زخرفة، بل لغة بناء فكر وبرهان.
سابعًا التعليم والسياسات اللغوية
1 – أزمة التعليم اللغوي
تعاني العربية من مناهج تقليدية تعتمد على الحفظ دون الفهم، ومن ضعف تدريب المعلمين، ومن انفصال بين التعليم والواقع المعرفي.
2 – التخطيط اللغوي ضرورة حتمية
بقاء العربية مرتبط بوجود سياسات لغوية واعية تُدعم:
الكتابة الأكاديمية بالعربية
البحث العلمي بالغة الأم
وسائل الإعلام والتعليم المعاصر
خاتمة: العربية… حين يكون البقاء فعل مقاومة
العربية لم تبقَ لأنها مقدّسة فقط، ولا لأنها جميلة فحسب، بل لأنها لغة قاومت، وتكيّفت، وواجهت، ونهضت.
هي لغة إذا أُعلن نهايتها، كتبت بدايتها، وإذا ضُيّق عليها، وسّعت المعنى؛ وإذا صمت عنها أهلها، نطقت بهم.
في يومها العالمي، نقول لا بوصفنا حُرّاس الماضي فحسب،
بل بوصفنا صُنّاع المستقبل:
العربية ليست لغةً كانت… بل لغةٌ ستكون.
المراجع
ابن جني، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى، ج1.
تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، عالم الكتب.
جورج سارتون، Introduction to the History of Science.
إيمانويل فوتر، الترجمة والعلم في العالم الإسلامي (ترجمة وتقديم).
عبد السلام المسدي، العربية والحداثة، دار الطليعة.
إدوارد سابير، Language: An Introduction to the Study of Speech.
محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية.
محمود فهمي حجازي، علم اللغة العربية، مكتبة مدبولي.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .