
قراءة نص ” صوتي لا يُؤخذ بالوكالة “ ، بقلم : رانية مرجية
في زمنٍ تُختزل فيه التجربة البشرية بتعليق عابر أو حكم مسبق، يأتينا نص ناديا كيوان “صوتي لا يُؤخذ بالوكالة” كموقف وجداني وفكري مقاوم، يتكئ على تأمل الذات بوصفها المصدر الأصدق للفهم والتقدير، لا ما يفرضه الخارج من تصنيفات سطحية أو اتهامات مجحفة.
منذ العنوان، تُعلن الكاتبة عن جوهر النص: استعادة السيادة على الصوت الشخصي، واسترداد الحق في التعبير عن الذات دون وسيط أو وصي. إنه صوت يحتجّ، لا ضد الآخر فقط، بل ضد ما سمحنا له بأن يُصبح صوتًا داخليًا يحاكمنا بلغته لا بلغتنا، ويقرأنا من منظوره لا من موضعنا.
أولًا: البنية الشعورية للنص
يتنقل النص بين مشاعر مألوفة وموجعة: الصمت القسري، التقليل من المعاناة، الاستخفاف بالمشاعر، والتفسير التعسفي للتجارب الخاصة. تعالج الكاتبة هذا القهر الصامت بأسلوب صادق، مشبع بالألم، دون أن تسقط في التباكي أو الخطابة. بل تصوغ عبارات تلامس الحقيقة الشخصية للعديد من القرّاء الذين طالما شعروا بأنهم ضيوف غير مرحّب بهم في سردياتهم الخاصة.
“كم مرة صمتِّ لأن أحدهم قرر أن مشاعرك مبالغ فيها؟”
هنا نقرأ الألم لا بوصفه مجرد تجربة، بل بوصفه مُساءلة أخلاقية عن كيف صار الآخرون يُعرّفوننا، ويملكون السلطة على صدقنا الداخلي.
ثانيًا: فلسفة النص
النص لا يكتفي بكونه فضفضة وجدانية، بل يؤسس لفلسفة في العلاقة مع الذات والآخر. يقول:
“أن تُصدّق ما تراه فيك عيونهم… خيانة باردة لذاتك.”
هذه العبارة تختزل جوهر النص بأكمله. إنها ليست مجرد دعوة للثقة بالنفس، بل تحذير من الاستلاب الصامت، ذلك الذي يحدث حين نصير صورةً في مرآة الغير، ونتخلى عن حقيقتنا لنرتدي تصوراتهم عنا.
النص يؤمن بأن الذات ليست نسخة مفتوحة للقراءة العامة، بل هي معقدة، مليئة بالشقوق، والطبقات، والنبضات الصامتة. وأن الآخر، مهما تظاهر بالفهم، يظل عاجزًا عن الإحاطة بما في داخلنا، لأنه ببساطة لم ينهض من حيث سقطنا، ولم يُمسّ بما مسّنا.
ثالثًا: البعد الوجودي
يطرح النص سؤالًا وجوديًا محوريًا: من يملك حق تفسير الألم؟ ومن يقرر حقيقة التجربة؟ هنا تتقاطع الأفكار مع فكر المفكرين الوجوديين الذين رفضوا إسقاط القيم العامة على التجارب الفردية. فالذات، بحسب هذا النص، هي وحدها القادرة على قياس عمق وجعها، ودرجة حاجتها للنجاة:
“الحقيقة لا تُقاس بكثافة البكاء، ولا بصوت الوجع… بل بمدى حاجتك للنجاة رغم كل ما لا يُقال.”
إنه تعريف بالغ الرهافة للصدق الداخلي. لأن بعض الألم لا يحتاج شهودًا ولا شهادات. وبعض النجاة، تحدث بهدوء، وسط العتمة، بعيدًا عن ضوء التبرير والإقناع.
رابعًا: الجمالية والأسلوب
نادية كيوان كاتبة تمتلك حسًا لغويًا مرهفًا، يمزج بين شعرية الجملة ووضوح الفكرة. اقتباساتها موزونة بعناية، تمنح النص بعدًا تأمليًا، كأنها شذرات حِكمية خرجت من قلب محترق وعقل نابه.
ليست اللغة هنا مجرد أداة، بل هي تجلٍ للذات المقهورة والمتمردة في آن. فالعبارات مصاغة بجمالية هادئة، بعيدة عن الصخب، لكنها تضرب في العمق وتُوقظ أسئلة لا مفر منها.
ختامًا: صوت الذات لا يُؤخذ بالوكالة
في عالم يمتهن الوصاية ويحب التنميط، يظل هذا النص تذكرة ثمينة، بليغة، بأن الألم تجربة سيادية لا تقبل التفسير الخارجي. وأنّ الدفاع عن الصوت الداخلي ليس ترفًا شعوريًا، بل هو فعل بقاء، واسترداد لحقّنا في أن نكون ما نحن عليه، لا ما يُقال عنّا.
نعم، لسنا روايات مفتوحة… بل نحن أرواح معقدة، لا تُلخّص بجملة، ولا تُفكّر نيابةً عنها