
بين أزمة تكدّس الشيكل إلى مأساة تكدّس الخريجين: التعليم والتدريب المهني والتقني كطريق وطني للنجاة الاقتصادية ، بقلم : الدكتور عماد سالم
في خضم الحديث المتكرر عن ما يُعرف بـ”أزمة تكدّس الشيكل” في السوق الفلسطيني، وهي ظاهرة مالية تعكس اختلال السياسات النقدية والاقتصادية نتيجة غياب العملة الوطنية وقيود الاحتلال، تغيب عن النقاش العام أزمة أكثر عمقًا وخطورة، وهي “تكدّس الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل ، لا سيّما في تخصصات أكاديمية مشبعة مثل الطب والهندسة والمحاماة لا يحتاجها سوق العمل المحلي، ما أدى إلى بطالة مزمنة بين الشباب، وأزمة ثقة في جدوى التعليم العالي التقليدي.
لقد أصبحنا أمام مفارقة صادمة: أموال مجمّدة في البنوك لا تتحول إلى استثمار حقيقي، وأجيال كاملة من الخريجين بلا عمل، بلا إنتاج، وبلا أمل. وبين هاتين الأزمتين، يظهر التعليم والتدريب المهني والتقني كطريق واقعي واستراتيجي لإنقاذ الاقتصاد الفلسطيني من التكدّس والجمود، ومنح الشباب فرصًا حقيقية للتمكين والعمل والإنتاج.
تكدّس الخريجين… أزمة متفاقمة بالأرقام… أرقام وحقائق صادمة
تُظهر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2024) ما يلي:
⦁ بلغت نسبة البطالة بين الشباب (15-29 عامًا) من خريجي التعليم العالي نحو 53%.
⦁ أكثر من 38 ألف خريج سنويًا ينضمون لسوق العمل، دون مواءمة فعلية بين التخصصات واحتياجات الاقتصاد.
⦁ من بين التخصصات الأكثر تكدسًا:
⦁ التربية والتعليم: تمثل 24% من مجمل الخريجين، فيما تعاني الوظائف التعليمية من اكتظاظ شديد.
⦁ الهندسة: هناك أكثر من 30,000 مهندس مسجل، بينما فرص العمل تقل كثيرًا عن ذلك.
⦁ الحقوق: تقدم أكثر من 3,000 خريج لامتحانات نقابة المحامين عام 2023، في سوق لا يحتاج أكثر من 400 سنويًا.
هذه الأرقام تبيّن أن الخلل ليس في الطالب، بل في سياسات القبول، والتوجيه الأكاديمي، وضعف التشبيك بين التعليم وسوق العمل.
التضليل الأكاديمي وسوء التوجيه المهني وغياب حماية للطلبة
بعض المؤسسات التعليمية، وبدوافع ربحية، تُسوّق لتخصصات تقليدية دون مراعاة لمؤشرات سوق العمل أو قدرة الاقتصاد الوطني على الاستيعاب. تُروّج حملات إعلامية براقة تغري الطلبة وذويهم، ولا تقدّم أي ضمانة سوى شهادة أكاديمية تُضاف إلى رُفوف البطالة.
غياب التوجيه المهني المبكر، وتراجع دور الجهات الرقابية في تنظيم البرامج الأكاديمية، أفرز حالة من الانفصال التام بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق، ما يدفع الشباب إلى مزيد من الإحباط والهجرة أو الانخراط في أعمال لا تمت بصلة لتخصصاتهم.
النتيجة: شباب يحملون شهادات بلا مهارات، وطموحات بلا فرص، ومجتمع يخسر طاقات واعدة تُهدر في البطالة أو الهجرة.
مقابل التكدس الأكاديمي… نقص خطير في المهارات المهنية
رغم الوفرة في الخريجين، يعاني السوق الفلسطيني من نقص حاد في المهارات الفنية والمهنية المطلوبة في مجالات حيوية يحتاجها الاقتصاد والتنمية اليومية:
ومن الأمثلة:

هذه المفارقة تدق ناقوس الخطر: نُخرّج سنويًا آلاف العاطلين عن العمل، بينما يفتقر سوق العمل لاصحاب المهارات المطلوبة.
التعليم والتدريب المهني والتقني كخيار وطني لا اضطراري
لسنوات، تم تقديم التعليم المهني والتقني كمجرد بديل لأصحاب المعدلات المتدنية، ما جعله خيارًا “اضطراريًا” بدل أن يكون خيارًا وطنيًا استراتيجيًا. لكن اليوم، وبفعل تعمق الأزمة، تتغير النظرة عالميًا ومحليًا إلى أن:
⦁ التعليم المهني هو رافعة اقتصادية أساسية.
⦁ المهارات التقنية هي عملة سوق العمل الحديث.
⦁ خريج المهنة قد يكون أكثر دخلًا واستقرارًا من حامل شهادة جامعية في تخصص تقليدي.
هل حان وقت إعادة رسم خارطة التعليم؟
نعم. المسؤولية هنا ليست فقط على الطلبة أو أولياء الأمور، بل هي مسؤولية وطنية شاملة:
⦁ وزارة التعليم العالي مطالَبة بإعادة هيكلة التخصصات وتحديد نسب القبول بناء على دراسات سوق العمل.
⦁ الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) ينبغي أن تُمنح صلاحيات أوسع لتوجيه المسارات المهنية وتطوير بنيتها التحتية.
⦁ وزارة الاقتصاد والغرف التجارية مطالبة بدعم تشغيل المهنيين من خلال حوافز ضريبية وتشجيع المشاريع الصغيرة.
⦁ المجتمع المدني والإعلام يجب أن يعيدا الاعتبار لقيمة العمل المهني ويفكّكا ثقافة “العيب”.
في فلسطين، يقود هذا التحول حاليًا توجه وطني لتعزيز منظومة التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) عبر:
⦁ إعادة رسم سياسات القبول والتوجيه الأكاديمي.
⦁ تمكين التدريب التعاوني والعملي داخل المؤسسات.
⦁ إنشاء مجالس قطاعية بالشراكة مع القطاع الخاص لتخطيط المهارات.
⦁ ربط المهن بمؤهلات معترف بها محليًا ودوليًا.
⦁ تطوير الصورة المجتمعية للتعليم المهني من خلال الإعلام والتوعية.
التوصيات – خارطة طريق وطنية للإنقاذ
⦁ إصلاح شامل لمنظومة التوجيه الأكاديمي في المدارس الثانوية وربطها بتحليل سوق العمل.
⦁ وضع سقوف عددية للتخصصات الأكاديمية المشبعة، وتحفيز الطلبة على التخصصات التقنية والمهنية.
⦁ تمويل مشاريع الريادة والابتكار المهني للشباب من خلال حاضنات أعمال وصناديق تنموية.
⦁ سنّ قوانين لحماية المستهلك الأكاديمي من التضليل في الدعاية الجامعية.
⦁ دعم البنية التحتية لمراكز التدريب المهني ودمجها بالتكنولوجيا الذكية.
⦁ تمكين الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني لتقود هذا التحول من خلال صلاحيات تنفيذية وشراكات فاعلة مع القطاع الخاص والوزارات.
⦁ تعزيز الشراكة بين التعليم وسوق العمل من خلال المجالس القطاعية وإشراك القطاع الخاص في تصميم البرامج التعليمية.
من استهلاك الشهادات إلى إنتاج القيمةفي ظل تكدّس الشيكل وتجمّع الأموال دون استثمار حقيقي، وفي ظل تكدّس آلاف الخريجين دون عمل، يصبح التحول نحو التعليم والتدريب المهني والتقني هو المفتاح الوحيد لبناء اقتصاد فلسطيني منتج وعادل ومستدام.
لقد أثبتت التجارب أن الشهادات وحدها لا تخلق فرص العمل، لكن المهارات تخلق الفرص، وتعزز الكرامة، وتبني مجتمعات مستقرة. ونحن بحاجة اليوم إلى شجاعة جماعية لمغادرة وهم الشهادات نحو حقيقة المهارة والإنتاج.
إن استمرار تكدّس الخريجين دون تدخل وطني شامل هو قنبلة موقوتة تهدد ليس فقط الاقتصاد، بل الاستقرار المجتمعي والعدالة التربوية.
إن تكدّس الخريجين لم يعد مجرّد ظاهرة اجتماعية، بل هو مؤشر على خلل بنيوي في تخطيط القوى العاملة الوطنية. ولا يمكن معالجة هذا الخلل إلا من خلال إصلاح جذري في سياسات التعليم والتشغيل، تقوده الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني، بالتكامل مع باقي مؤسسات الدولة والمجتمع.
فلنُعد التفكير، قبل أن نصبح مجتمعًا من العاطلين المعلّقين بين شهادة لا تُطعم، وسوق لا يرحم.
إن فلسطين اليوم بحاجة إلى نموذج جديد في التفكير التنموي، يعتمد على تعزيز التعليم والتدريب المهني والتقني كرافعة للعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وكمدخل لبناء اقتصاد مقاوم ومنتج. لقد أثبتت التجارب الدولية أن الدول التي احترمت المهن، ووجهت شبابها نحو الإنتاج، هي الدول التي تقدّمت. فهل نمتلك الشجاعة للقيام بهذه الخطوة اليوم؟
إن فلسطين اليوم لا تواجه فقط أزمة بطالة أو اختلال في مخرجات التعليم، بل تعيش أزمة اقتصادية خانقة، تتمثل في تراجع الإيرادات، وانكماش النمو، وتراجع القدرة الشرائية، وعجز الموازنة، وتآكل فرص الاستثمار.
لكن رغم ذلك، ما زالت فلسطين تمتلك كنزها الحقيقي: شبابها. وما زال بالإمكان تحويل هذه الأزمة إلى فرصة، عبر الاستثمار في المهارات المهنية والتقنية، التي لا تحتاج لرأسمال كبير، بل إلى رؤية، وإرادة سياسية، وتخطيط ذكي.
لقد أثبتت التجارب أن الشهادات وحدها لا تخلق فرص العمل، لكن المهارات تخلق الفرص، وتعزز الكرامة، وتبني مجتمعات مستقرة. نحن بحاجة اليوم إلى شجاعة جماعية لمغادرة وهم الشهادات، نحو حقيقة المهارة والإنتاج.
فلسطين لا تملك ترف الوقت أو الموارد، لكنها تملك فرصة الإصلاح. والتعليم والتدريب المهني والتقني هو مفتاح النجاة الاقتصادية القادمة.
- – الدكتور عماد سالم – خبير في التعليم والتدريب المهني والتقني وسوق العمل والسياسات العامة –
ق.ا رئيس الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني سابقاً
.