
على بوابة الرغيف.. وطن يسقط من ظهور الرجال ، بقلم : سمر فرحات
في بلادٍ تُزهق فيها الأرواح لا في ساحات الوغى، بل عند أعتاب الفرج الضيقة.. حيث الجدران تشهد على جوعٍ صامت، والمعابر تُحصي أنفاس المحاصرين، والصمت أثقل من دوي القنابل. أطفالٌ تعلّموا أن الموت أسهل من انتظار الرغيف، وآباءٌ يحملون في عيونهم خرائطَ اليأس.
خرجوا في ذلك الفجر الذي يشبه جمرةً تحت الرماد، لا يحملون سوى فتات الذكريات في جيوبهم البالية، وصورًا لأطفالٍ لم يعودوا يبتسمون إلا في الأحلام. كانوا يعرفون الطريق جيدًا.. طريقًا لا يُفضي إلى الحياة، بل إلى هاويةٍ بين “ربما” و”لعلّ”.
مَرّوا صامتين.. كأنما صمتهم صرخةٌ تختنق في الحلق. لا يسمع أحدٌ همساتِ الأمعاء التي صارت أجراسَ جوع، ولا صوتَ الدم الذي تجمد في العروق كأنه يرفض أن يضخَّ في عروق أمواتٍ يمشون. كانت نظراتهم تثقب الظلام، خائفةً من أن تلدها عدسةُ كاميرا أو فوهةُ بندقية.
زحفوا تحت الأسلاك كما يزحف الموتى في قبور ضيقة، ليسوا لصوصًا.. بل أشباحًا تبحث عن ظلِّ حياة. أيها الوطن، إلى أيّ حدٍّ سنحملُك في جوفنا قبل أن تنفجر أحشاؤنا؟ هنا، حيث الرغيفُ يُشترى بقطعةٍ من الروح، والموت أهونُ من أن تمدَّ يدك للجلاد.
اقترب من السياج الحديدي.. ذلك الحاجز الذي صار حدًّا فاصلًا بين الجوع والموت الجائع. الثغرةُ التي حفرها اليأسُ بأظافر الأطفال، وباركتها دماءُ الشيوخ. وقفوا خلف كومة التراب، وكأن قلوبهم ستُلقى عليها قربانًا.
“امشوا”.. كلمةٌ خرجت من فم المهرب كطلقةٍ في الظلام.
فانطلقوا.. لم يكونوا يركضون، بل كان الموت يطاردهم بخطى ثقيلة. كل خطوةٍ كانت تشبه اقتلاعَ الروح من الجسد، والحصى تحت أقدامهم كشظايا من عظام سابقة. السماءُ كانت سقفًا من رصاص، والهواءُ خنجرًا في الرئة.
لم تكن أنفاسهم سوى شهقاتٍ أخيرة لوطنٍ يلفظ أنفاسه، كلُّ واحدٍ منهم يحمل على ظهره مقبرةً وطنية.
أما هو، فقد ركض كما لو أن صوته ممنوع، وأنفاسه مرصودة، ركض والخوف ينهش قدميه، لم يكن يركض لأن الطريق آمن، بل لأن خلفه يدًا لا ترحم إن أمسكت. ركض وعيناه لا تريان الطريق.. بل ما قد يحدث إن تعثّر. كل خطوةٍ كانت طوق نجاة. رأى السيارة من بعيد.. السيارة التي ستنقله إلى العمل، إلى الحياة. اقترب، ومدّ يده نحو الباب، لكن الأبواب لا تُفتح للمنهكين.
سقط. لم يكن له ذنبٌ سوى أنه أراد العيش بكرامة، أن يركض خلف لقمة خبز لا سرقة فيها، لكن القدر كان أشد قسوةً من السجان، وسلبه فرصة النهوض مرة أخرى. وقفوا يشهدون سقوط رجلٍ لم يجرم، وشاهدين على وطنٍ يتنفس الموت ببطء، يمزق رجاله قطعةً قطعة. لم يسقط لأنه تعثّر، بل لأن الأرضَ تحت أقدام الفقراء مهزوزةٌ دائماً. سقطَ لأن العالمَ صمَّ أذنيه عن صوت الساقطين، فصرنا نموت موتاً هادئاً.. كحشراتٍ تحت أحذيةِ الغُزاة.
هنا، لا يموت الرجال لأنهم ثاروا، بل لأنهم تأخروا ثانيةً عن الحياة، أو لأن الهواء كان أثقل من الرغيف. هكذا تُزهق الأرواح في بلادنا، لا في معارك الكرامة، بل على بوابة الرغيف. يموت رجالنا لا لأنهم طالبوا بحرية، بل لأنهم فقط.. أرادوا أن يُطعموا أبناءهم.
يا الله.. إنّ هذا الوطن يلتهم أبناءه، ويخنقهم في صباحاتهم، ويُخرجهم من بيوتهم فلا يُعيدهم، إلا جثثًا تغسلها دموع الأمهات .يا ربّ، قل للأرض أن تكفّ عن ابتلاعهم، وقل للسماء أن توسّع قليلاً.. فصدورُنا ما عادت تتّسع للمزيد.