
قراءة لقصة “صدى صوت امرأة” للكاتبة ازدهار عبد الحليم الكيلاني ، بقلم: رانية مرجية
في قصة “صدى صوت امرأة”، نبحر في سردٍ شفيفٍ يُعيد للذاكرة معنى الانتماء، ويوقظ فينا سؤال الهوية العميق: من نكون حين يُنزَع عنّا الصخب؟ وما الذي يتبقى حين نصغي لصوتنا بين الجبال؟
تطرح الكاتبة في هذا النصّ قصة انتقال قسري من المدينة إلى القرية، لكنه يتحوّل من تجربة اغتراب إلى رحلة اكتشاف الذات. تبدأ القصة من شعور المرأة بالغربة، لا عن المكان فحسب، بل عن نفسها. المدينة التي شكّلت صورتها الخارجية تفقد سلطتها شيئًا فشيئًا في القرية، حيث يُصبح الصمت مرآةً، وتتحوّل الجبال إلى آذانٍ تُصغي لصوت لم يكن مسموعًا من قبل.
الكاتبة ترسم ببراعة نفسية بطلتها، دون أن تحتاج إلى صراخ خارجي، بل من خلال التوتر الداخلي بين الانغلاق والانفتاح، بين الخوف من الآخر والفضول نحوه، بين الهوية المدينية المتمدنة، والهوية القروية القريبة من الأرض والطبيعة والوجدان الجمعي. في البداية، المرأة كائن هامشي، منطوٍ، يراقب دون مشاركة، لكنه يتحوّل إلى لبّ التجربة ومركز الحكاية مع الوقت. وتتحوّل هي من “المرأة الغريبة” إلى “المرأة التي تشبهنا”، ثم إلى “واحدة منا”، بل صوتٌ من أصواتنا.
المفتاح السردي هنا ليس فقط في التحوّل الزمني، بل في طقوس الانخراط: الحطب، الغناء، العتابا، الجرة، المواقد، التراب. هذه ليست مجرد أدوات للعيش، بل رموز رمزية للهوية الجذرية. عبر هذه الطقوس تُصاغ الروح من جديد. الكاتبة لا تحتفي بالقرية بشكل فولكلوري رومانسي، بل تكشف كيف تُصبح العودة للأصل، عبر التعب والممارسة، ولادة ثانية.
أما صوت المرأة، فهو بطل القصة الحقيقي. ليس لأنه مرتفع، بل لأنه عميق. يتحوّل من صوتٍ غريب يُثير الريبة، إلى صدى يُطرب الجبال ويحرّر القلوب. يصبح الصراخ البريء في أعلى الجبل لحظة تأمّلٍ، ثم فعل تحرّرٍ جماعيّ تُمارسه النساء، ثم طقسًا علاجيًا نفسيًا. في هذا تتحرّر المرأة من قيود المدينة ومن صمت الجدران، لتصبح امرأة كاملة الصوت والهوية.
ما يُلفت في القصة أيضًا، أن الكاتبة لا تقدّم القرية كمكان مثالي، بل كمكان فيه عيونٌ ترقب، وتقاليد تفرض، ومجتمع يُشكّك بالآخر. لكنها تُبرز أيضًا أن هذا المجتمع قادر على الاحتواء، حين يُمنح الوقت والصدق. بالتالي، القصة ليست تمجيدًا لمكانٍ على حساب آخر، بل هي دعوة للانفتاح على التجربة الإنسانية الكامنة في كل فضاء.
وتلك النهاية، حين تضطر المرأة للعودة إلى المدينة، ليست نكوصًا بل اكتمالٌ للحلقة. تحمل المرأة معها رائحة الحطب، وتغني العتابا في قلب المدينة، وكأنها تؤكد أن “المكان” الحقيقي هو حيث تنبض الروح لا حيث تُزرَع الجدران. وهي لا تعود خالية، بل محمّلة بالقصص، وتبدأ بالكتابة لتصبح شاهدةً على تجربة الحياة في الهامش.
الرسالة العميقة للقصة أنّ الأرض لا تحتضن فقط الأجساد، بل تحتضن الأصوات الخافتة التي تُحاول أن تكون. والقرية لم تُغيّر المرأة، بل أعادت لها صوتها الأصلي، ذاك الذي كانت تبحث عنه في صخب المدينة ولم تجده إلا في صمت الجبل.
قصة “صدى صوت امرأة” هي نشيد داخليّ، تهويدة نساءٍ يحملن الماء والحطب والأمل، وهي في الوقت ذاته وثيقة وجدانية تؤكد أن تحرّر المرأة لا يأتي فقط من الشارع، بل أيضًا من الصخر، من النار، من الغناء، من الصوت حين يُصبح مرآة الذات.
القصة تصلح أن تُدرّس في مدارس الحياة، لا لتعليم اللغة فحسب، بل لتعليم الإصغاء للصوت الداخلي، وتقدير المرأة في أدوارها المختلفة حين تعبر بين الضجيج والصمت، وتبني وطناً من صدى قلبها