
الاعترافات الغربية بدولة فلسطين .. بين “الشعور بالذنب والتكتيك السياسي” بقلم : د . ربحي دولة
منذ وعد بلفور في العام 1917، ظلّت السياسات الغربية، وعلى رأسها البريطانية والفرنسية، حجر الأساس في المعادلة التي دفعت بالشعب الفلسطيني نحو النكبة والتهجير ، فذلك الوعد المشؤوم لم يكن مجرد بيان سياسي، بل كان بمثابة التأسيس الفعلي لحرمان الفلسطينيين من أرضهم، وشكل انطلاقة لمسار استعماري طويل أعاد تشكيل الواقع الفلسطيني على وقع التحالفات الدولية والمصالح الغربية؛ خلال فترة الانتداب البريطاني، تم تمهيد الأرض لتأسيس “إسرائيل” عبر إجراءات أمنية وإدارية عنيفة ضد الفلسطينيين، ورغم كل ما تلا النكبة من مجازر وجرائم ممنهجة، ظلّ الغرب بمعظمه متماهياً مع الرواية الصهيونية، مسوّغاً أفعال الاحتلال تحت ذريعة “الدفاع عن النفس” و”الديمقراطية”.
و في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد التصعيد الدموي المتكرر على غزة ما بين 2023 و2025، بدأت معالم تحول ظاهر تتشكّل في بعض العواصم الغربية. فقد خرجت الملايين إلى الشوارع، رافضةً التواطؤ السياسي والإعلامي، في لحظة تاريخية تحوّلت فيها صور الدماء والدمار إلى حقيقة يومية على شاشات العالم. لم يعد بمقدور الحكومات الغربية أن تتجاهل الغضب الشعبي العارم، ولا أن تخفي جرائم الاحتلال خلف خطابات دبلوماسية متحفظة. فالتوثيق المباشر الذي وفرته منصات التواصل الاجتماعي، بمشاركة نشطاء وصحفيين فلسطينيين من قلب الميدان، أسقط احتكار إسرائيل للسردية، وعرّى حجم الانتهاكات المتواصلة.
في هذا السياق، بدأت بعض الدول الغربية تعلن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. لكن السؤال المحوري الذي يُطرح اليوم هو: هل هذا التحول يمثل قناعة استراتيجية جديدة، أم أنه امتداد لتكتيكات سياسية مألوفة، تُستخدم للتهدئة لا التغيير؟
تتعدد دوافع هذه الاعترافات، من ضغوط الشارع الغربي إلى الانقسامات الإسرائيلية المتفاقمة وصعود الخطاب الفاشي في حكومات تل أبيب، وصولاً إلى التخوف الأوروبي من الملاحقات القضائية الدولية، خاصة بعد تزايد استخدام مصطلحات مثل “الإبادة الجماعية” في المحافل الحقوقية والبرلمانية العالمية. كما أنّ تعنّت إسرائيل ورفضها لأي حلول سياسية دفع بعض الحكومات إلى إعادة تقييم موقفها، لا من باب الانتصار للعدالة، بل اتقاءً للحرج الدولي وفقدان المصداقية.
وسط هذا المشهد، لا يمكن تجاهل الدور المتقدم الذي أداه الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية، عبر تفعيل كل القنوات الدبلوماسية والسفارات، في الدفع نحو تغيير مواقف بعض الدول الغربية تجاه القضية الفلسطينية. فمن خلال التحرك السياسي المتواصل، والحضور الفاعل في المحافل الدولية، والمخاطبات المباشرة مع الحكومات والمنظمات الأممية، نجحت القيادة الفلسطينية في ترسيخ الرواية الفلسطينية كقضية تحرر وحق تقرير مصير، لا كأزمة إنسانية مؤقتة. كما ساهم هذا الجهد المنظّم في خلق مناخ سياسي يُصعّب على الدول الكبرى الاستمرار في إنكار وجود الشعب الفلسطيني أو تجاهل الجرائم التي تُرتكب بحقه، خاصة في ظل التغطية الواسعة للفظائع التي يشهدها قطاع غزة.
وإلى جانب العمل الرسمي، شكّل التضامن الشعبي العالمي رافعة مركزية لهذا التحول. فقد خرجت مظاهرات كبرى في لندن وباريس ومدريد ونيويورك، مطالبة بالعدالة للفلسطينيين، ورافعةً الأعلام الفلسطينية في قلب المدن الغربية. لقد شكّلت هذه التحركات لحظة نادرة من اتساع التأييد الشعبي، عابرة للأديان والأعراق، ومبنية على وعي جديد بصحة وعدالة الرواية الفلسطينية، التي ظلت لسنوات تُغتال في الإعلام العالمي.
أما على الصعيد الفلسطيني ، فإن لهذه الاعترافات أبعادًا متعددة. فعلى المستوى الرمزي، تعني هذه الخطوات تثبيتًا للهوية الوطنية واعترافًا بوجود شعب تعرض لقرن من النفي والتهميش. وعلى المستوى السياسي، تُشكّل هذه اللحظة فرصة لتعزيز دور المرأة الفلسطينية في ميدان العمل الدبلوماسي وصناعة القرار، ولفتح ملفات الانتهاكات الإسرائيلية ضد النساء في المحافل الدولية، باعتبارها جزءًا من الجرائم الجماعية المستمرة. كما أن الاعتراف قد يُستخدم كرافعة قانونية لتسريع التحرك أمام المحاكم الدولية لمحاسبة مجرمي الحرب، وخاصة فيما يتعلق بجرائم الاستهداف المتعمد للأطفال والنساء في قطاع غزة.
لكن في المقابل، يجب التنبه إلى مخاطر حقيقية تكمن خلف هذا التحول، إذ قد تسعى بعض الدول لاستخدام الاعتراف كورقة لامتصاص الغضب العالمي، دون اتخاذ أي خطوات حقيقية نحو محاسبة الاحتلال أو وقف الدعم العسكري له. كما أن الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود مؤقتة ومنزوعة السيادة قد يُستخدم لإعادة تدوير “حل الدولتين” بشكل يخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى، ويضغط على الفلسطينيين لقبول الحد الأدنى من الحقوق تحت غطاء دولي شكلي.
نحن اليوم أمام لحظة فارقة لا ينبغي أن تُفهم بوصفها منّة دولية أو صحوة ضمير مفاجئة، بل كنتاج مباشر لنضال طويل وتضحيات جسيمة، دفعت غزة ثمنها الأكبر، وساهمت فيه أجيال من الفلسطينيين نساءً ورجالًا. إن الاعتراف بدولة فلسطين، وإن حمل رمزية كبرى، لا يعني بحد ذاته التحرير، لكنه نافذة سياسية يجب استثمارها بقوة، لتثبيت الحق الفلسطيني، وتعزيز الحضور الدولي، والدفع نحو مسار عدالة شاملة لا يقف عند حدود الدبلوماسية بل يتجاوزها نحو إنهاء الاحتلال واستعادة الكرامة والسيادة واقامة الدولة المستقله وعاصمتها القدس الشريف
- – د. ربحي دولة – كاتب وسياسي فلسطيني