
زلزال الاعتراف بفلسطين ، الغرب يكسر جدار الصمت ، بقلم : الصحفي سامح الجدي
في مشهد غير مسبوق، يشهد العالم موجة متتابعة من الاعترافات المتأخرة لكن المؤثرة بدولة فلسطين. دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وكندا، إلى جانب بلدان أوروبية وأميركية لاتينية، بدأت تتحرك باتجاه الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، في خطوة اعتُبرت على نطاق واسع “زلزالًا دبلوماسيًا” يُعيد تموضع القضية الفلسطينية في صدارة المشهد الدولي، ويهزّ قواعد الدعم التقليدي لإسرائيل في الغرب.
صدمة غزة فجّرت التغيير
ما جرى في غزة منذ أكتوبر 2023 لم يكن مجرد حرب عابرة، بل مأساة إنسانية مدوية هزّت الضمير العالمي، مع توثيق المجازر اليومية، وتدمير الأحياء السكنية فوق رؤوس ساكنيها، وحرمان ملايين المدنيين من أبسط مقومات الحياة. هذه الصور التي تصدّرت الشاشات والمنصات، أجبرت شعوبًا غربية بأكملها على إعادة التفكير، ودفعت حكوماتها إلى مراجعة مواقفها التاريخية.
وقد لعبت المظاهرات الشعبية الحاشدة في لندن وباريس وبرلين وتورونتو، فضلًا عن الضغوط البرلمانية والإعلامية، دورًا كبيرًا في زعزعة صمت طال لعقود. لقد أصبح التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على كثير من الحكومات الغربية، خصوصًا في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة، تُمعن في الاستيطان وترفض كل المبادرات السلمية.
التحولات الكبرى: من الحذر إلى الاعتراف
لفترة طويلة، امتنعت دول مثل بريطانيا وفرنسا وكندا عن اتخاذ خطوة الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، تحت ذريعة “الحفاظ على فرص حل الدولتين عبر التفاوض”. لكن الواقع كان يقول غير ذلك: إسرائيل تواصل فرض الأمر الواقع بالقوة، وتُفرغ أي حديث عن حل الدولتين من مضمونه.
ومع تراكم الأدلة على ارتكاب جرائم حرب، وازدياد عزلة إسرائيل حتى بين بعض حلفائها، بدأت الكتلة الغربية بالتحرك. فرنسا تحدثت عن “ضرورة الاعتراف” كجزء من استعادة التوازن في الشرق الأوسط، بينما أشار رئيس الوزراء البريطاني إلى أن الاعتراف بدولة فلسطين “سيأتي في الوقت المناسب”، في إشارة إلى أن القرار بات على الطاولة بجدية. أما كندا، ورغم موقفها المتحفظ سابقًا، فقد بدأت تشهد انقسامًا داخليًا في النخبة السياسية حول ضرورة الاعتراف.
ما وراء الاعتراف.. حسابات سياسية وأخلاقية
الاعترافات المتتالية لا تأتي فقط بدافع إنساني أو حقوقي، بل وراءها أيضًا حسابات استراتيجية. فالغرب يدرك أن التماهي الكامل مع إسرائيل لم يعد ممكنًا، خصوصًا في ظل صعود قوى عالمية جديدة مثل الصين وروسيا، وتحول الرأي العام العربي والعالمي إلى أكثر وعيًا ومطالبة بالعدالة.
كما أن الاعتراف بدولة فلسطين يفتح بابًا أمام استعادة مصداقية الغرب، ويمنحه ورقة جديدة في التعامل مع القضايا الإقليمية، بعد سلسلة من الإخفاقات في العراق وسوريا وليبيا. هو محاولة لإعادة التوازن، ولإظهار احترام القانون الدولي، ولو بشكل متأخر.
تداعيات الاعتراف.. ما الذي سيتغير؟
- توسيع العزلة الدبلوماسية لإسرائيل:
كل اعتراف جديد بدولة فلسطين هو صفعة سياسية للاحتلال، ويضعه في موقف دفاعي أمام العالم. - تمكين الفلسطينيين دوليًا:
الاعترافات تُعزّز المطالب الفلسطينية في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، وتمنح السلطة الفلسطينية أدوات ضغط جديدة. - تحريك الجمود السياسي الداخلي:
قد يدفع هذا التحول القوى الفلسطينية إلى تجاوز الانقسام الداخلي، والتوحد خلف مشروع وطني جامع يواكب اللحظة الدولية. - فتح الباب أمام المزيد من الدول:
مع اعتراف دول محورية، من المتوقع أن تحذو دول أخرى حذوها، خاصة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ما يعيد رسم الخريطة السياسية للصراع.
كلمة أخيرة
ما نشهده اليوم ليس مجرد تحول في المواقف، بل إعادة تعريف للعدالة، وتصحيح لمسار طال انحرافه. “زلزال الاعتراف” ليس نهاية الطريق، بل بدايته. وعلى القيادة الفلسطينية أن ترتقي إلى مستوى الحدث، وأن تستثمر هذا التحول لترسيخ الحقوق الوطنية، لا أن تضيّعه كما ضاعت فرص سابقة.
لقد كسر الغرب جدار الصمت، فهل نكسر نحن جدار الانقسام؟