
وعد بلفور ، قرن من الخداع ، هل تخشى بريطانيا اليوم سداد الدين الفلسطيني؟ بقلم : المهندس غسان جابر
في الثاني من نوفمبر عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية “وعد بلفور”، وهو تعهد مشؤوم من وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا، نصَّ على أن “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. لم يكن هذا الوعد مجرّد بيان دبلوماسي عابر، بل شرارة خطيرة مهّدت لتدمير حياة شعب بأكمله، وشكّلت الأساس القانوني والسياسي لتهجير الفلسطينيين، وسرقة أرضهم، وتشريدهم في أرجاء الأرض.
اليوم، وبعد أكثر من قرن، تعود بريطانيا إلى واجهة القضية الفلسطينية، ليس بوعد جديد، بل بإخفاق قديم لم تسعَ قط لتصحيحه. لكن الملفت هذه المرة أن التاريخ يُقلِّب أوراقه من جديد، ليضع بريطانيا في قفص الاتهام، لا بوصفها الدولة التي مهّدت لنكبة شعب، بل كدائن يرفض دفع ما عليه من استحقاقات مالية وحقوقية متراكمة، تحت اسم “الودائع الفلسطينية المجمدة”.
أرصدة في قبضة المستعمر
منذ عام 1927، أصبح الجنيه الفلسطيني العملة الرسمية المتداولة في البلاد، وقد صُمم بإشراف حكومة الانتداب البريطاني. وتم إصدار هذه العملة بإشراف مباشر من بنك باركليز البريطاني، الذي تولّى عمليًا دور البنك المركزي، بإدارة وإصدار الجنيه الفلسطيني، بشرط أن يكون مغطى بالكامل بالذهب والعملات الأجنبية، وفق ما نصت عليه التشريعات البريطانية حينها.
ومع اقتراب نهاية الانتداب في مايو 1948، وبدلاً من تسليم هذه الأرصدة إلى الجهات الشرعية الممثّلة للشعب الفلسطيني، عمدت بريطانيا إلى تجميد الأرصدة الفلسطينية، التي كانت تدار من قبل “مجلس النقد الفلسطيني”، وهو هيئة تمويلية تحت سلطة الانتداب. وقد تم نقل ما يعادل ألف طن من الذهب إلى بريطانيا، تحت غطاء قانون “الدفاع المالي البريطاني”.
تشير التقديرات إلى أن قيمة هذه الأموال التي بلغت حينها نحو 138 مليون جنيه فلسطيني، قد تجاوزت اليوم 6 تريليونات دولار بفعل التضخم والفوائد التراكمية. وحتى في الحد الأدنى من التقديرات، فإن قيمة هذه الودائع لا تقل عن 70 إلى 80 مليار دولار، وهي ثروة كافية لإعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني وتوفير استقلالية مالية حقيقية.
الاعتراف المشروط… و”السر” الاقتصادي
في يناير 2025، صوّت مجلس العموم البريطاني لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في خطوة رمزية لا تُلزم الحكومة البريطانية قانونيًا. ورغم ذلك، امتنعت بريطانيا عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار الاعتراف بفلسطين، ما أثار تساؤلات حول دوافع هذا الحذر البريطاني.
الخبير القانوني المستشار محمد الصبيحي قدّم تفسيرًا بالغ الأهمية: الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين سيمنحها الصفة القانونية كخلف لحكومة فلسطين ما قبل 1948، ما يتيح لها المطالبة رسميًا بالودائع المجمدة. وحينها ستكون بريطانيا مجبرة، قانونيًا وأخلاقيًا، على إعادة الأموال أو تسديد قيمتها مع الفوائد.
وهنا تتضح المفارقة: بريطانيا تخشى أن يؤدي الاعتراف بفلسطين إلى فتح ملفات مالية قد تتسبب في هزة مالية كبرى داخل خزائنها، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية.
السلطة الفلسطينية… بين الابتزاز والانقسام
في ظل هذا الملف المعقّد، لا يمكن إغفال حقيقة أن السلطة الفلسطينية قد تتعرض لضغوط وابتزاز سياسي من بعض الأطراف الدولية، التي قد تربط بين الاعتراف السياسي وبين تسويات مالية أو تنازلات في ملفات سيادية.
كما أن الانقسام الفلسطيني القائم يُضعف الموقف القانوني أمام المجتمع الدولي، ويمنح بريطانيا وغيرها فرصة للتهرب من مسؤولياتها عبر التساؤل عن “الجهة الشرعية” التي تستحق تسلم هذه الودائع. وهذا يعزّز الحاجة إلى توحيد الموقف الفلسطيني الرسمي، ووضع خطة قانونية ودبلوماسية موحدة تستند إلى وحدة تمثيل وموقف وطني جامع.
هل آن الأوان للمحاسبة؟
مئة عام مرت على وعد بلفور. مئة عام من الخيانات الممنهجة، والدبلوماسية المضللة، والعدالة المؤجلة. واليوم، يقف العالم أمام لحظة مفصلية: إما أن تكون بريطانيا دولة تحترم التزاماتها القانونية والتاريخية، أو تظل حبيسة إرثها الاستعماري المشين.
وإذا كانت بريطانيا قد صنعت إسرائيل بوعد، فعليها أن تعيد لفلسطين حقوقها بوثائق وأرقام وأرصدة محفوظة في أرشيف بنك إنجلترا. وهذا ليس مطلبًا سياديًا فقط، بل واجب قانوني وأخلاقي يجب أن تُحاسب عليه أمام المحاكم البريطانية والدولية، وأمام التاريخ.
إن الودائع ليست مجرد أموال، بل شهادة إثبات على وجود دولة، شعب، وسيادة تم السطو عليها. وإن استعادتها اليوم، ستكون بمثابة نقض عملي لوعد بلفور، واعتذار عملي لشعب لم يُهزَم، رغم أن العالم حاول دفنه سياسيًا وماليًا.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.
إقرأ أيضا :



