
اليسار الفلسطيني والفرصة الأخيرة ، بين حسابات الانتخابات ووصايا الغائبين ، بقلم : المهندس غسان جابر
كأننا نكتب على شاهد قبر.
كأننا نرثي حالمين لم يموتوا بعد، لكنهم غابوا عن المشهد، أو غُيّبوا، أو استسلموا للخذلان.
اليسار الفلسطيني… ذاك الاسم الذي كان يومًا نبضًا للفقراء، وراية في مواجهة الطغيان، وضميرًا للثورة… يقف اليوم على حافة الغياب، يتأرجح بين ماضيه العريق وحاضره الباهت، بين صرخات الغضب المكتومة وصمت البيانات المنمّقة.
في زمن تتشظّى فيه فلسطين بين حصارٍ واحتلال، وتهويدٍ واقتلاع، وتشتتٍ وتمزّق، يعود الحديث عن انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، كمحاولة متأخرة لإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير.
لكن الحديث عن الانتخابات بلا يسار فاعل، هو كمن ينشد العدالة في محكمة بلا قضاة.
عزاء في وضح النهار
لم يُهزم اليسار الفلسطيني لأنه فقد المبادئ، بل لأنه فقد الصلة بالناس.
ظلّ أمينًا لأفكاره، لكنه خذل واقعه.
تشرذم في تنظيماته، وانكمش في مواقفه، وتوارى خلف أرشيف تاريخه.
أخطأ حين تمترس خلف شعاراته القديمة، ولم يُصغِ جيدًا لأنين المخيمات، وحرائق غزة، وحيرة شباب الضفة، وعزلة الشتات.
ما زالت ذاكرة الناس تحفظ أسماء شهداء ومناضلين يساريين واجهوا الاحتلال بصدرٍ مكشوف.
لكن ما تبقّى اليوم في المشهد السياسي، هو خيالات تلك التضحيات… بلا صدى.
لا تُقام القيامة بالبيانات
لا نحتاج إلى مَن يُصدر بيانًا في كل مجزرة… بل من يكون في الجنازة.
لا نحتاج إلى يسارٍ يُزايد في لغة الهزيمة، بل إلى يسارٍ يؤسس لفجرٍ جديد، يسير مع الناس لا أمامهم، يصدقهم لا يُنظّر عليهم، يبني معهم لا يعظهم.
الانتخابات: نافذة نجاة… أم مرآة خيبة؟
إذا ما كُتبت للمجلس الوطني انتخاباتٌ نزيهة وتمثيلية، فإنها ستكون أكثر من مجرد استحقاق انتخابي.
إنها فرصة لإحياء المشروع الوطني… ولبعث اليسار من تحت الرماد.
لكن هذا البعث لن يتم بالتمنّي، بل بخمسة شروط:
- التحالف… لا الانصهار
الوحدة ليست ذوبانًا، بل ائتلاف على برنامج نضالي مقاوم، يجمع الجبهة الشعبية، والمبادرة الوطنية الفلسطينية، وحزب الشعب، وفدا، وجبهة النضال الوطني، والجبهة العربية الفلسطينية، وسائر الأطياف اليسارية والتقدمية.
تحالف واحد… لا ثلاث قوائم وثلاث خيبات.
- كسر المحاصصة
كفى مقاعد تُوزّع في غرف مغلقة، وكأننا في مجلس عائلي.
المطلوب آليات ديمقراطية تفرز القيادات من الميدان، لا من فوق.
- الرهان على الشباب
لا مستقبل ليسار لا يُسلّم رايته لأيدٍ فتية.
الشباب ليسوا زينة للصور، بل قادة الجولات القادمة.
- خطاب جريء… لا رمادي
ضد الاحتلال، ضد القمع، ضد الفساد، ضد التنسيق الأمني، ضد الخنوع.
لا مكان للمجاملات في زمن المجازر.
- شراكة مع الشارع
اليسار الذي لا يتحالف مع النقابات، والمخيمات، والنسويات، واللجان الشعبية، والمستقلين…
سيبقى وحيدًا في مقعد خلفي مهجور.
اتفاق بكين… آخر الوصايا
في ربيع 2024، اجتمعت الفصائل الفلسطينية في بكين ووقّعت وثيقة تاريخية تنص على إنهاء الانقسام، وتفعيل منظمة التحرير، وتنظيم انتخابات شاملة.
كلّهم وقّعوا، بمن فيهم اليسار.
لكن من الذي طالب بتطبيق الاتفاق؟ من الذي نزل إلى الشارع؟ من الذي جعل من هذا التفاهم أولوية وطنية؟
اليسار اليوم لا يملك الأغلبية، لكنه يملك الوزن الأخلاقي والسياسي الذي يؤهّله لقيادة مطلب تنفيذ اتفاق بكين.
هو الوحيد القادر على أن يُحرج المتخاذلين، ويُراكم الضغط، ويُطلق حملة وطنية تُعيد الاتفاق من الورق إلى الواقع.
ليس عليه أن “يفرض” شيئًا، بل أن يُحرّك الإرادة الشعبية خلف الاتفاق، ويجعل تطبيقه استحقاقًا لا خيارًا.
هل نكتب النشيد الأخير؟
نحن أمام لحظة تُشبه كتابة الوصية…
فإما أن نُوقّعها على باب الانبعاث،
أو نُعلّقها على جدار النسيان.
يا رفاق الوعي، ويا أبناء الخسارات النبيلة…
الشعب لا يريد أعجوبة، بل فقط صوتًا صادقًا يشبهه.
واليسار، إن اختار الحياة، ما زال قادرًا أن يكون هذا الصوت.
لكن إن تردّد، أو انقسم، أو غاب،
فليسمح لنا أن نرثيه بألم،
ونكتب على شاهد قبره:
“هنا دُفن اليسار… حين خاف الوحدة، ونسي الشارع، وترك الناس بلا ضمير حيّ.”
- – م. غسان جابر – مهندس وسياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية والبلدة القديمة – الخليل .