
الانسانية في اقبح تجلياتها ، بقلم : هاني ابو عمرة
في فصل جديد من فصول العبث الاستعماري، كشفت قناة كان العبرية عن عملية منظمة لنقل عشرات الحمير من قطاع غزة الى اوروبا، بمشاركة جمعيات اسرائيلية ودعم مؤسسات اوروبية – فرنسية وبلجيكية – تحت ذريعة الرحمة البيطرية.
نعم، لم تقرا خطأ، في الوقت الذي يباد فيه الانسان الفلسطيني تحت الركام، وتسحق اجساد الاطفال في خيام النزوح، وتحاصر غزة حتى الرمق الاخير، تتحرك الضمائر الحية لانقاذ… الحمير.
الجيش الاسرائيلي، ذراع الابادة الميداني، لم يكتف بهدم البيوت على رؤوس اصحابها، بل وجد وقتا ليسرق الحمير من مناطق الاجتياح، بدعوى انها مريضة وتحتاج الى علاج نفسي. هذا الجيش نفسه الذي حول قطاع غزة الى جحيم، وقصف محطات المياه وطوابير الاغاثة، ادرك فجاة ان للحمير حقوقا في الحياة الكريمة.
كانما اراد المحتل ان يضيف الى سجل جرائمه لمسة تهكم، ان يسلب حتى وسائل النقل البدائية التي يستخدمها الفلسطينيون للنجاة من الموت، ويصدرها ككائنات صالحة للعطف في الغرب. كم يبدو المشهد سرياليا: جنود مدججون بالسلاح، يقتادون الحمير من تحت القصف، الى مزرعة اسرائيلية اسمها Starting Over – البداية الجديدة… بداية جديدة؟ لمن؟ للحمير، لا لاصحابها الذين طمروا تحت تراب الوطن المسلوب.
في الثامن عشر من ايار، اقلعت من مطار بن غوريون طائرة تحمل ثمانية وخمسين حمارا باتجاه الحرية. وجهتها فرنسا وبلجيكا. هناك، استقبلتها محميات اوروبية كرموز للرحمة، ولفقت لها قصص نجاة مؤثرة. لم يذكر احد ان هذه الكائنات كانت في غزة، ولا انها نهبت من قبل الاحتلال. لا احد سأل عن اصحابها، او عن مصير الاطفال الذين كانوا يتنقلون على ظهورها بحثا عن ماء او خبز، او ينقلون عبرها لما تبقى من مشافي تعمل كجثامين او جرحى.
هذه هي الانسانية الزائفة في اقبح تجلياتها. الانسانية التي تصرخ من اجل قطة علقت في شجرة، وتصمت على ابادة شعب. الانسانية التي ترى معاناة حمار، ولا ترى المجازر الجماعية، ولا تسمع صراخ الامهات في عنابر المجازر المفتوحة.
فرنسا – مهد الحرية والعدالة – تهرع لتمنح حق اللجوء للحمير، بينما تضيق على اللاجئين، وتبرر قصف المدنيين في غزة بحق الدفاع عن النفس. بل وتستقبل حميرا باعتبارها رموزا للسلام، فيما تصم اذانها عن صوت الحقيقة، وتشيطن كل من يتضامن مع فلسطين.
هل رايتم نفاقا اكثر وقاحة؟
حين يعاد تدوير الحمير كقصص ملهمة في اوروبا، فيما يعاد تدوير الفلسطيني في الخطاب الغربي كتهديد امني.
حين تمنح الحمير مأوى، ويحرم البشر من خيمة.
حين تعالج الحمير من الصدمات، بينما الفلسطيني لا يعترف حتى بكونه ضحية.
هذا ليس مشهدا من مسرحيات العبث، بل الواقع السياسي العاري من كل قيمة اخلاقية. اسرائيل تقتل الانسان، وتدعي انها تنقذ الحيوان، -بينما هي في الواقع تحكم الحصار بعد ان قطعت الوقود ودمرت الطرق فاستعاض عنها الفلسطيني بالحمير والدواب للتنقل- والغرب يصفق باعجاب، ويحول الجريمة الى حكاية انسانية جذابة تصلح لعروض تلفزيونية.
هذه ليست قصة عن الحمير، بل عن انعدام الكرامة لدى منظومة ادعت يوما انها تدافع عن حقوق الانسان، فثبت انها لا ترى الانسان الفلسطيني اصلا.
لقد اصبح المشهد واضحا: في عالمكم، يمنح الحمار ملجأ واهتماما ورواية؛ اما الفلسطيني، فلا نصيب له الا من النار والخذلان.
ايها العالم المنافق، لا تتحدثوا عن الرحمة، فانتم لم ترف لكم عين امام صور الاطفال المتناثرين، ولم تتحركوا حين اصبحت غزة مقبرة مفتوحة. انتم منحازون، ليس فقط الى القاتل، بل الى الحمار على حساب الضحية.
في النهاية، يبدو ان على الفلسطيني ان يولد حمارا لاجئا… ليحظى بحق الحياة في هذا العالم الساقط.