
بين توسعة الحرب وزيارة ترامب ، مشروع تصفية يَتجدد ومواجهة تَفرض نفسها ، بقلم : مروان أميل طوباسي
تشهد المنطقة لحظة سياسية شديدة الحساسية ، تتقاطع فيها أطماع القوة مع صمت العدل ، وتتكشف فيها خيوط مشروع إقليمي يُراد له أن يُفرَض قسراً فوق أنقاض الحق الفلسطيني . ليست الجرائم الإسرائيلية المستمرة في غزة والضفة مجرد فعل عسكري ، بل هي تتويج لخطة طويلة المدى ، تعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا ، بدعمٍ أمريكي مباشر ، وتواطؤ غربي وبجزء منه إقليمي .
في هذا السياق ، تصبح زيارة ترامب المقبلة إلى الخليج العربي ، بعد اسبوع في منتصف أيار الجاري حلقة مركزية في هذا المسار ، إذ تأتي محملة بأجندة سياسية وأمنية واقتصادية ، هدفها ترسيخ الهيمنة الإسرائيلية تحت غطاء “حلول سلام”، لا تعني لنا نحن الفلسطينيين سوى المزيد من النكبات والتجريف الوجودي .
— ترامب يعود بفكرة قديمة ، تصفية سياسية بأدوات أقتصادية.
تسعى إدارة ترامب الحالية إلى إعادة تسويق ذات الرؤية التي فشلت شعبياً وبموقف فلسطيني رسمي قبل أعوام في إدارته الاولى ، ولكن بزخم أقوى هذه المرة . فزيارته المرتقبة إلى السعودية وقطر والإمارات ، وإن جرى تسويقها في إطار التعاون الأمني والاقتصادي ، تحمل في جوهرها محاولة لإعادة فتح بوابة التطبيع من جديد ، كوسيلة لفرض واقع سياسي جديد على حساب حقوق شعبنا الفلسطيني .
في وسط هذه الزيارة تكمن نوايا لم تُعلن بعد ، لكنها واضحة في ملامحها ، ربط غزة بمشاريع خارجية تفصلها عن الضفة ، ترتيب أدوار لدول الإقليم ، وتجهيز أدوات مالية لتلميع مشروع سياسي يتجاوزنا نحن الفلسطينيين أنفسنا . كل ذلك يترافق مع صمت رسمي عربي من بعض الأطراف الى حد ما ، يشجع على التمادي في تنفيذ هذا المخطط .
–إدارة الحرب من تل أبيب إلى الخليج .
ما يجري على الأرض في فلسطين ليس سوى انعكاس مباشر لهذه التحولات . فقرارات حكومة الأحتلال الإسرائيلية الأخيرة بشأن الحرب على غزة ، تؤكد أن العدوان ليس مجرد رد فعل ، بل جزء من مخطط متدرج ، توظف فيه كل لحظة سياسية لصالحه .
فقد قررت المؤسسة الأمنية للأحتلال الإسرائيلي إبطاء بعض خطوات التصعيد العسكري ، بما يخدم التنسيق مع مواعيد زيارة ترامب . حيث جرى الحديث عن “فترة تهدئة مؤقتة” يُفرج فيها عن بعض الأسرى الأسرائيلين المحتجزين ، مقابل بعض الفتات من المساعدات ، التي لن تُمرر سوى عبر قنوات أمريكية خاضعة للرقابة . وترافق ذلك مع تأجيل توسيع العمليات العسكرية ، بانتظار ما سيحمله ترامب من تفاهمات أو صفقات جديدة ، تجعل الهجوم الشامل أكثر قبولاً إقليميا ودوليا .
وفي الوقت نفسه ، يتم الأستعداد لتوسعة العدوان . فقد أقرّ مجلس الأحتلال الوزاري المصغر أستدعاء المزيد من قوات الأحتياط ، تمهيداً لما يُوصف بـ”الهجوم النهائي”، وفق خطط رئيس أركان الأحتلال الجديد ، وبدعم كامل من نتنياهو الذي لا مسار بديل له سوى الإمعان في تصعيد الحروب بالمنطقة بشكل أوسع لاستمرار وجوده وحكومته الفاشية .
— ما بعد الحرب ، مشروع تصفية متعدد الأدوات .
لم يعد عدوان الإبادة والتجويع والتهجير وسيلة للضغط ، بل أداة لإعادة تشكيل الواقع الفلسطيني برمته . حيث يجري الحديث عن ترتيبات تتجاوز غزة ، نحو خلق إدارة ذاتية خاضعة لمعازل جغرافية ( بانتوستنات ) في الضفة الغربية دون القدس التي قد اعلنوا ضمها كعاصمة سابقا بموافقة ترامب ، وأستكمال منظومة الفصل والضم والأستيطان ايضا يضر اخضر أمريكي ، في ظل صمت دولي غربي ، وتطبيع إقليمي يفتح المجال لتحالفات جديدة لا تعترف بالحق السياسي الفلسطيني المشروع وبالمقدمة منه حق تقرير المصير وما يرتبط به من دولة مستقلة ذات سيادة على كافة الأراضي المحتلة وحل قضية اللاجئين .
كل ذلك يُروّج له تحت غطاء “حلول إنسانية” و”دعم إغاثي”، بينما الهدف الحقيقي سياسي بالكامل يتمثل بإنهاء المشروع الوطني الفلسطيني وتحويل القضية إلى مسألة إنسانية أقتصادية بلا بعد تحرري .
— فلسطين أولاً ، الرد المطلوب .
أمام هذا المشهد المظلم ، لا بد من موقف وطني فلسطيني موحد واتساعه عربيا بالقدر الممكن ، يعيد الأعتبار للحقوق الفلسطينية بوصفها غير قابلة للتصرف او للمقايضة أو التجزئة وفق التجارب السابقة ، ويبدأ ذلك من خلال :
أولاً : إعادة بناء البيت الداخلي الفلسطيني ، من خلال منظمة التحرير الفلسطينية بأستنهاضها ومجلس وطني ومركزي جامع يرسّخ الشراكة الوطنية الواسعة والتمثيل الديمقراطي لحين أجراء الأنتخابات العامة .
ثانياً : تفعيل المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والقانونية ضمن رؤية استراتيجية واضحة تراكم الإنجاز وتكسر محاولات عزلنا أو أحتوائنا .
ثالثاً : الأنفتاح على قوى الشعوب الحرة والقوى التقدمية عالميا ، وتوسيع دائرة التحالف مع الدول الصديقة والصاعدة في ظل المتغيرات الجارية ، والرأي العام الدولي المناصر للعدالة وإنهاء الأحتلال .
“أن الحرب ليست معركة وقت ، بل معركة وعي ومصير ، وزيارة ترامب ليست حدثاً عابراً ، بل جزء من مشروع قديم يرتدي قناعاً جديداً اليوم .”
فما نحتاجه نحن أكثر من السلاح ، هو وضوح البوصلة الوطنية والقرار الوطني المستقل في اطار الرؤية التحررية الديمقراطية .
فوسط هذا الكم من التواطؤ ، والتغاضي ، والترويج لوصفات الهزيمة المغلفة بكلمات السلام لقبول التعاطي مع الأمر الواقع تحت مسمى “البراغماتية”، يبقى صوت شعبنا الفلسطيني عبر محطات كفاحه المتواصلة هو الحقيقة الوحيدة الراسخة . علينا أن نحسن تنظيم هذا الصوت ، فالصراع ليس فقط على الأرض ، بل على الوعي ، والكرامة ، والإرادة التي تحقق التغيير نحو هزيمة الأحتلال والنظام الصهيوني العنصري ، وذلك في ظلال الذكرى الثمانين للأنتصار على النازية التي يحتفل بها هذه الأيام وبما تشكله من نموذج لأنتصار الشعوب .