2:25 مساءً / 29 ديسمبر، 2025
آخر الاخبار

التعليم … فضاءات الوعي وصوغ المعنى الجماعي ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

التعليم … فضاءات الوعي وصوغ المعنى الجماعي ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


التعليم في فلسطين لا يُقاس كنظام إداري يمكن ترقيعه، ولا كقطاع خدمات يمكن تحسينه عبر مؤشرات وبرامج، بل هو سؤال وجودي يتقاطع فيه التربوي بالسياسي، والمعرفي بالأخلاقي، واليومي بالمصيري. المدرسة الفلسطينية، تحت ضغط الاحتلال، ليست مجرد فضاء لإيصال محتوى جاهز، بل مختبر لإعادة إنتاج المعنى التربوي: لماذا نعلّم؟ من أجل أي إنسان؟ وتحت أي أفق قِيَم؟ وكيف يمكن للتعليم أن يعيد تشكيل الوعي وصياغة الهوية والمعنى الجماعي في مواجهة التحديات الكبرى التي تهدد استمرار المشروع التربوي؟


العلاقة بين التربية والسياسة ليست تبعية ميكانيكية، بل تأسيس متبادل؛ فالتربية قادرة على ترميم السياسة حين تنهار بوصفها عقداً أخلاقياً، بينما السياسة عاجزة عن إصلاح ما أفسدته تربية مشوّهة أو منزوعـة المعنى. في فلسطين، الأزمة ليست مجرد فشل السياسات، بل تفكك الرؤية التربوية نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، التمويل المشروط، وإدارة الطوارئ المستمرة. التعليم هنا مشروع مهدّد بالتفريغ، ومطالب باستعادة عمقه التحرري، ليظل أداة صون الهوية وبناء الوعي الجماعي.


المدرسة فضاء للهوية والتربية


الهوية في التعليم الفلسطيني ليست مجرد مسألة ثقافية قابلة للتكيف، بل ساحة صراع على المعنى والذاكرة وإمكانية الاستمرار. المدرسة ليست فضاء للتعليم البنكي، بل مختبر لصون التيقن المعرفي وصياغة الفهم النقدي الذي يعيد تشكيل الوعي والمعنى الجماعي. هنا يُختبر التوازن الهش بين التربية بوصفها فعل بناء، والسياسة بوصفها قوة ضبط وتقييد؛ فعندما تتعرّى السياسة من بعدها الأخلاقي، تفشل في إصلاح ما تنتجه تربية مشوّهة، بينما تظل التربية، حين تُصان رؤيتها وقيمها، قادرة على ترميم المجال العام، ولو ببطء تراكم.


خطورة الأزمة التعليمية لا تكمن في ضعف الأداء أو المؤشرات، بل في محاولات تفريغ التعليم من جوهره وهدفه الأساسي، ودفعه ليكون محايداً في سياق لا يسمح بالحياد، أو تقنياً في واقع يتطلّب وعياً نقدياً، أو محصوراً ضمن “إدارة أزمات” دائمة بدل كونه مشروعاً مجتمعياً طويل النفس. استعادة البعد الهويّاتي تعني إعادة وصل المعرفة بسياقها، والتعلّم بمعناه الأخلاقي، وتمكين الإنسان من الفهم والمساءلة والتخيّل، وحماية التعليم من الانهيار الرمزي أمام محاولات الإلغاء والتفريغ.


النظام التعليمي الفلسطيني هندسة الصمود والمعنى


إذا كانت الهوية هي السؤال الأعمق، فإن النظام التعليمي هو المختبر الذي يُختبر فيه هذا السؤال يومياً. الحديث عن “نظام تعليمي” في فلسطين يظل توصيفاً إجرائياً أكثر منه واقعياً، إذ يعمل هذا النظام في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، والتكامل الجغرافي، ووحدة المرجعية. التعليم لا يتحرك وفق منطق التطوير التدريجي المعتاد، بل وفق منطق الصمود وإدارة الاستمرارية في سياق مفتت.


في غزة، التحدي هو البقاء الرمزي بعد استهداف البنية المدرسية والجامعية وتحويل الفضاء التعليمي إلى أثر قابل للمحو. في القدس، يُعاد تعريف المعرفة بما يتوافق مع سرديات قسرية، وفي الضفة الغربية، يُقيد النظام بالموارد والحركة وتجزيء القرار، ما يحوّل التخطيط التربوي إلى ممارسة مؤقتة تُدار بالطارئ أكثر من الرؤية الاستراتيجية.
النظام التعليمي الفلسطيني يُحاسب على مخرجاته دون الاعتراف بشروط عمله، ويُطالب بالحياد في سياق لا يسمح إلا بالاصطفاف الأخلاقي. الاعتياد على الطوارئ يحوّل التعليم من مشروع مجتمعي إلى جهاز يستهلك طاقته في منع الانهيار بدل بناء المعنى. أي إصلاح حقيقي لا بد أن يبدأ بالاعتراف بهذه الهشاشة البنيوية ومعالجتها قبل أي تحسين تقني.


المعلم الفلسطيني وفعل الانعتاق المعرفي والجماعي


المعلم الفلسطيني هو محور الصمود والتغيير، ليس مجرد منفذ للخطط والبرامج، بل فاعل معرفي أساسي يساهم في صياغة الرؤية التربوية والمعنى الجماعي. يعمل في ظروف اقتصادية ونفسية ومهنية هشة، وغالباً دون إدماج حقيقي في القرار التربوي، ما يحوّل دوره أحياناً إلى أداة تنفيذ، بدل أن يكون منتجاً للمعرفة ورافداً للوعي النقدي. بعض المقاربات الحديثة، وإن بدت إنسانية، تحصر رفاه المعلم في معالجة فردية، متجاهلة جذور الإنهاك البنيوي والشروط التي تُنتج الضغوط اليومية، ما يُفقده القدرة على ممارسة دوره الكامل في المجتمع التعليمي.


في ظل هذه الظروف، يصبح التعليم الفلسطيني فعل انعتاق معرفي وجماعي؛ فالمدرسة ليست مجرد فضاء لتلقين محتوى جاهز، بل مختبر لصون الهوية الوطنية والموروث الثقافي والديني، وتمكين المعلم والمتعلم من المشاركة الفاعلة في بناء وعي جماعي قادر على مواجهة التحديات المعاصرة. إعادة الاعتبار للمعلم تعني استعادته كفاعل تربوي يمتلك الحق في السؤال والمساءلة والمشاركة في صياغة السياسات، ليصبح العقدة المركزية التي تتقاطع عندها الهوية والنظام والمعرفة، حيث يتحول التعليم إلى مشروع جماعي يعيد تشكيل الوعي ويصوغ أفقاً معرفياً مستداماً.
ورغم القيود المادية، والتمويل المشروط، واستهداف الاحتلال للمؤسسات التعليمية، يواصل التعليم الفلسطيني مسيرته، حيث تتحول التحديات إلى محفزات للإبداع والابتكار. المدارس والمراكز التربوية تبتكر حلولاً مرنة، والجمعيات الأهلية تدعم البرامج وتوسع الوصول، فيما توفر الائتلافات والشراكات فضاءات للتنسيق وإعادة صياغة السياسات التعليمية. البرامج الإصلاحية الوطنية تسعى لتطوير البرامج التعليمية وأساليب التدريس، وتأهيل المعلم ليصبح محوراً فاعلاً، وليس مجرد منفذ، فيما تؤكد النجاحات الفردية للمعلمين والمعلمات الذين حازوا جوائز عالمية أن التميز ممكن رغم القيود، وأن التعليم الفلسطيني قادر على أن يكون قوة تغيير جماعية ومؤسسية، وفضاء لإعادة بناء الوعي وصياغة المعنى الجماعي.


ختاماً، التعليم الفلسطيني جسر بين الماضي والحاضر، بين الهوية والتحديث، وبين قيود التمويل وتحديات الطوارئ، وبين غياب الدعم ومحاولات الاحتلال لتقويض العملية التربوية. إنه تجربة تتجاوز أي تصور تقليدي للتعليم، لتصبح فعلاً معرفياً وجماهيرياً يعيد صياغة الوعي، ويصقل القدرات الوطنية، ويحيي روح الإبداع والتحرر الجماعي. التعليم هنا ليس هدفاً بحد ذاته، بل ممارسة ترتبط بالهوية والذاكرة، وتعيد التأمل في طبيعة المشروع الجماعي، حيث يتحول كل فكر وكل فعل تربوي إلى عنصر من بناء الأمة وصون المعنى.


التعليم ليس مجرد نظام يتأثر بالسياسات والتمويل، بل فعل جماعي يعكس قدرة المجتمع على الصمود ويعيد تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين الوطن والحياة المشتركة. كل تجربة تربوية تحول القيود إلى فرص، وتثبت قدرة التعليم الفلسطيني على الترميم الحضاري والنهوض الفكري، رغم كل العقبات، ليظل حجر الزاوية في بناء فلسطين الحاضرة والمستدامة.

شاهد أيضاً

الأونروا : 235 ألف شخص تضرروا من منخفض "بايرون" الجوي بغزة

الأونروا : 235 ألف شخص تضرروا من منخفض “بايرون” الجوي بغزة

شفا – قالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، اليوم الاثنين، إن نحو …